لم يكن يخطر ببال الفلسطينية مُنى الزميلي (33 عامًا) التي نزحت عن قطاع غزة إلى جمهورية مصر العربية هرباً من ويلات الحرب. أن تتحول متاجر القاهرة إلى ساحة عملها الجديدة.
تتجول منى بين المحال التجارية، تختار قطع الملابس والحقائب بعناية، ثم تقوم بعرضها والترويج لها عبر منصة إنستغرام، مستهدفة زبائنها القدامى في غزة، والجدد في مصر.
فقدت منى متجرها في غزة نتيجة القصف، وبذلك تكبدت خسائر مالية كبيرة كانت من المفترض أن تستثمر عائداتها التجارية في تطوير مشروعها، إلا أن الحرب كان لها خطط أخرى.
قالت بنبرةٍ حزينة: "قبل الحرب بأيام قليلة، استلمت بضاعة جديدة كنت سعيدة بها جدًا، لكن اندلعت الحرب وفقدت كل شيء. تقدر خسارتي بأكثر من 30 ألف دولار".
لم تكن مُنى الوحيدة التي منيت بهذه الخسارة، إذ فقد عشرات الغزيين مشاريعهم الصغيرة، واضطروا إلى البحث عن فرص جديدة خارج القطاع، لكن لا توجد أرقام دقيقة حول عدد هذه المشاريع الناشئة التي تحولت إلى رماد.
تُشير إحصاءات جهاز الإحصاء الفلسطيني، إلى تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي لسكان قطاع غزة جرّاء الحرب الإسرائيلية الأخيرة، فقد بلغت نسبة البطالة في غزة حوالي 80%، فيما تأثر نحو 90% من أصحاب المشاريع الصغيرة ماليًا بفعل الحرب.
فيما تقول وزارة الاقتصاد الوطني في قطاع غزة إن الضرر طال نحو 95% من المنشآت التجارية، بينما وصلت الخسائر في القطاع الاقتصادي إلى نحو 2 مليار دولار، وبلغت تكلفة الدمار في البنية التحتية 25 مليار دولار.
بالعودة إلى منى، فقد عانت من صدمة نفسية كبيرة بعد تعرضها لتلك الخسارة التي هددت مستقبلها العملي. بعد ثلاثة أشهر من وجودها في القاهرة وجدت نفسها مضطرة لإكمال مشوارها لذا قررت خوض تجربة جديدة من الصفر، بإنشاء متجر إلكتروني والبدء بالتسويق له عبر الانترنت.
ومتجر منى متخصص في بيع الملابس النسائية، وتحاول من خلاله استقطاب الزبائن النازحين وكذلك زبائن مصريين. تقول: "لم يكن الأمر سهلًا، الأنماط الاقتصادية تختلف من مكانٍ لآخر، والسوق المصري مختلف تمامًا عن غزة، وعليّ موازنة الأسعار، ومعرفة الأذواق، والبحث عن موردين جدد".
وعلى الرغم من صعوبة التأقلم، نجحت مُنى في بناء قاعدة زبائن في مصر. ومع ذلك لم تتخل عن حلمها باستعادة إحياء متجرها في غزة. لذلك تمكنت بمساعدة صديقة لها لاتزال ترزح تحت الحرب المستمرة منذ عام ونصف تقريبا، بإقامة بسطة ملابس- لم تطالها أعمال القصف- في وسط أحد أسواق غزة.
لم يختلف حال باسل مسمح، صاحب مطعم "زاد" في خانيونس جنوب قطاع غزة، عن الزميلي كثيرًا. بنى مسمح سمعة طيبة لمطعمه على مدار سنوات، لكن الحرب دمرت ثلاثة فروع له بشكل كامل. وقال: "خسرت ما قيمته 450 ألف دولار، وكانت صدمة كبيرة لي، لذا اضطررت لمغادرة القطاع والنزوح إلى القاهرة".
وجد باسل نفسه أمام قرار صعب بعد نزوحه إلى مصر، فإما المغامرة وبدء مشروع جديد، أو الاستسلام للخسارة، فاختار الخيار الأول وافتتح فرعًا جديدًا لمطعمه "زاد" للشاورما بمبلغ كبير من المال، وكانت بالنسبة له مغامرة غير محسوبة في ظلّ خسارته المهولة ولكنه خاضها ونجح فيها كما يقول.
لم يكن النجاح سهلًا، إذ واجه مسمح صعوبات عديدة، من الإجراءات القانونية المعقدة إلى اختلاف أذواق الزبائن. يعقب: "كان السؤال الذي يراودني دائمًا: هل سنتخطى حاجز الجغرافيا وتباين المجتمعات وننجح في سوق مختلف؟".
وقبل وقت قصير، أعاد باسل فتح مطعمه في خانيونس جنوب قطاع غزة عبر وكيل له، ليصبح لديه فرعان، أحدهما في غزة والآخر في مصر، منتظرًا إعادة فتح معبر رفح والسماح بعودة العالقين من أجل استئناف نشاطه التجاري في غزة.
قبل الحرب، كان قطاع المشاريع الصغيرة في غزة يشهد ازدهارًا ملحوظًا، لا سيما في مجالات التكنولوجيا والتجارة الإلكترونية. حيث ازداد عدد المتاجر والتسويق عبر منصة إنستغرام، وانتشرت المشاريع الناشئة التي وجدت في السوق المحلي فرصة للنمو؛ لكن الحرب قلبت المشهد رأسًا على عقب، وفقًا للمختص في دعم المشاريع الصغيرة يوسف الحلاق.
يقول الحلاق: "دمرت الحرب جهد سنوات، واضطر كثيرون للبحث عن فرص خارج غزة في مصر أو الأردن". ورغم أن الأسواق الخارجية توفر فرصًا جديدة، إلا أنها تفرض تحديات كبيرة، أهمها صعوبة جذب الزبائن، وتحويل الأموال، فضلا عن تباين القدرة الشرائية، والاختلافات اللوجستية التي لم يعتد عليها أصحاب المشاريع في القطاع المحاصر منذ 17 عاماً.
يوضح المختص في دعم المشاريع الصغيرة، أن الانتقال إلى بيئات جديدة ليس مجرد تغيير مكان، بل هو تحدي كبير يتطلب فهمًا عميقًا لأسواق العمل المختلفة. ففي بيئة جديدة، يصبح التساؤل الأكبر: كيف يمكن جذب الزبائن الجدد؟ وكيف نتعامل مع اختلاف الأذواق والقدرة الشرائية؟ بالإضافة إلى ذلك، يواجه أصحاب المشاريع صعوبات لوجستية وقانونية، مثل تحويل الأموال والإجراءات البيروقراطية المعقدة.
كما أنّ النجاح في هذه البيئات الجديدة يتطلب دراسة متأنية للسوق، وعدم التسرع في اتخاذ القرارات المالية. وفقًا للحلاق الذي قال إنّه لا توجد إحصائية دقيقة حتى الآن حول حجم خسارة قطاع المشاريع الصغيرة؛ لكنه نصح أصحاب رؤوس الأموال بعدم التسرع في اتخاذ قرارات مالية كبيرة، فالتحديات كبيرة، لكن الإصرار على النهوض من جديد يظل أقوى من أي عقبة.
يواجه رواد الأعمال الفلسطينيون صعوبات جمة أثناء تنقلهم بأسواق جديدة، لكنهم يثبتون قدرتهم على التكيف أينما ذهبوا، وبينما يواصل البعض نجاحهم في الخارج، يعود آخرون إلى غزة لإعادة بناء مشاريعهم رغم كل الدمار.
لكن السؤال الذي يبقى مطروحًا: هل يمكن لأصحاب المشاريع الصغيرة في غزة تعويض خسائرهم الفادحة بسرعة؟ الإجابة لا تزال مفتوحة.
موضوعات ذات صلّة:
قتلت في مهدها: المشاريع الصغيرة تحت الأنقاض
ثلاثة سيناريوهات اقتصادية تنتظر غزة
هكذا حُكِم على شباب غزة بالأشغال الشاقة
الحرب على غزة تترك اقتصادًا مدمّرًا.. فهل من أمل بالنهوض؟
مشاريع ناشئة