في زاوية محاطة بالخرسان المُدمر في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، تجلس أم يوسف (32 عاماً) محاولةً إشعال نار من بقايا الأثاث الهالك وأمامها قدر صدئ يحتوي على وجبة اليوم إنه "حساء العدس".
تقول أم يوسف بحزن واضحٍ يخيم على وجهها: "هذه ثالث مرة هذا الأسبوع ننام فيها ببطون خاوية، وبخاصة أننا أصبحنا نعتمد على وجبة طعام واحدة بعد نفاذ الأطعمة والخضروات من السوق، فيما أصبحت الجيوب خاوية نتيجة الغلاء الفادح للسلع".
هذا المشهد ليس استثناءً، بل أصبح القاعدة في غزة حيث تحولت الحياة إلى معادلة مستحيلة، أمام القصف والجوع الناتج عن إغلاق جيش الاحتلال الإسرائيلي للمعابر منذ الثاني من مارس الماضي، والحرمان من المساعدات الإنسانية التي يعتمد عليها أكثر من 85% من السكان.
وبحسب النظام العالمي لتصنيف مراحل الأمن الغذائي (IPC) :فإن 96.3% من السكان يحتاجون مساعدات غذائية عاجلة، فيما أن 67.8% يعانون انعدام الأمن الغذائي الشديد (المرحلة 4 أو أعلى). بيد أن 1.1مليون شخص في حالة طوارئ غذائية قصوى.
مختصون أكدوا في سياق أحاديث منفصلة لـ"آخر قصة"، أن أكثر الفئات التي تدفع ثمنًا باهظاً لهذه المجاعة، هم المهمشون من النساء وبخاصة الحوامل، وكذلك الأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة، على اعتبار أن غالبيتهم لا يملكون مصادر للدخل أو الإعالة.
تقول أخصائية التغذية، ربى زيدان: "خلال الحرب برزت حالات سوء تغذية لم نرها منذ عقود، الأطفال يأتون بأجساد هزيلة وعيون غائرة، وكأن الزمن عاد بنا إلى مجاعات القرون السابقة".
وأوضحت زيدان أن هناك صعوبة في مواجهة هذه المجاعة في ظل محدودية خدمات الجهاز الصحي الذي يعاني ترهلاً أيضا بفعل الحرب وإغلاق المعابر وشح الادوية والعلاجات اللازمة لتعزيز التغذية.
جغرافيا الجوع
تمتد خريطة الأزمة الغذائية على طول محافظات قطاع غزة، والتي تنخفض فيها مستويات السعرات الحرارية اليومية إلى 245 سعرة/فرد، في الوقت الذي تحولت فيه
الأسواق إلى مسرح للمزايدات على الأغذية التي تشكل رفاهية كالسكاكر والمشروبات والعصائر، في الوقت الذي تغلق فيه المخابز أبوابها نظراً لوقف تدفق الطحين ومنع إدخال المساعدات.
وتكشف بيانات البنك الدولي انهيارا في القوة الشرائية بنسبة 89 %في قطاع غزة، بينما تتضخم أسعار المواد الأساسية بنسبة 437%، حيث بلغ ثمن كيس الدقيق زنة 25 كيلوجرام، 600 شيكل (أقل من 200 دولار) بعدما كانت قيمته نحو دولار ونصف، ناهيك عن اختفاء 72% من السلع الغذائية من الأسواق.
على ضوء ذلك، يواجه أرباب الأسر تحدي توفير الاحتياجات الأساسية لأطفالهم، بما في ذلك حليب الأطفال الرضع والبدائل الأخرى كحليب الصويا، والشوفان، والأرز، وجوز الهند.
ويروي الطبيب محمد الحلو: "في إحدى المرات فقدنا طفلة عمرها سنتان وزنها 5 كيلوغرامات، سبب الوفاة الرسمي: فشل أعضاء متعدد. لكننا نعرف أنها ماتت جوعاً".
وعلى الرغم من أن قطاع غزة يعد قطاعاً ساحلياً بطول 41 كيلو متر، إلا أن البحر لم يعد مصدراً غنياً بالغذاء بما في ذلك البروتين الناتج عن تناول الأسماك، كبديل عن اللحوم الحمراء التي يمنع إدخالها عبر المعابر التجارية.
ومنذ بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر 2023، والصيادين يواجهون تحدي ركوب البحر بحثاً عن الرزق، حيث يشير خليل عزام (47 عاماً) الذي فقد أحد أبناءه نتيجة إطلاق النار المباشر عليه وهو على متن مركب صيد صغير بالقرب من شاطئ البحر: "حتى البحر لم يعد مصدر رزق، قوات خفر السواحل الإسرائيلي تمنعنا من الصيد، إذ لا يسمح لنا بالاصطياد لوقت طويل، وفقاً لأهواء الجنود الذين يطلقون النار على كل متحرك".
يضيف عزام "في الواقع البحر صار مقبرة مثل البر، صحيح أنني فقدت أبني، لكننا كعائلة تعمل في هذه المهنة منذ عشرات السنوات، مرغمون على ركوب البحر من أجل إطعام أطفالنا على الأقل، فالبديل هو الموت جوعاً".
وطبقاً للتقارير الإحصائية الرسمية وتلك المتعلقة بالمنظمات الدولية كمنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي الصادرة حتى تاريخ 15 يونيو من العام المنصرم، نجد أن معدل السعرات الحرارية الأساسية اللازمة لسكان قطاع غزة قد انخفض بشكل حاد، حيث أنه تراجع من 2100 سعرة يوميا إلى 580، فيما ارتفعت نسبة حالات سوء التغذية الحاد من 1.2% إلى 31.7%، بينما مؤشر أسعار المواد الأساسية ارتفع بنسبة +437% .
ومن منظور الباحث الاقتصادي أشرف إسماعيل، فتلك ليست أرقاماً مجردة، بل هي قصص إنسانية تكتب بأحرف من الألم، حيث أن السؤال الذي ينتظر الإجابة من منظوره هو: متى سنتحول من تدوين المأساة إلى إنهائها؟
ويرهن الباحث إسماعيل انهاء الازمة، بقدرة المجتمع الدولي الضغط على الاحتلال للإيفاء بالتزاماته تجاه الشعب الفلسطيني في غزة بوصفه جهة احتلال وهو مطالب بموجب القانون الدولي توفير الغذاء للسكان وحماية المدنيين. وتحسين فرص الحياة.
لكنه قال، في مقابل كل ذلك تحاول إسرائيل محاربة السكان بالغذاء، بما في ذلك بتحديد الحد الأدنى من السعرات الحرارية التي من الممكن أن تبقيه على قيد الحياة.
وطبقا لاحتساب السعرات الحرارية الحالية، فإنها تعكس السقوط الحر نحو المجاعة الحقيقة، حيث تشير الإحصاءات إلى أن الوضع السابق خلال العام المنصرم كانت تشير الأرقام إلى أن الحد الأدنى العالمي للسعرات الحرارية اليومية تراجعت خلال العامين الأخيرين (2023-2024)، من (2100-580 سعرة حرارية)، وهي نسبة ينظر إليها على أنها أقل من معدل السعرات الحرارية داخل معسكرات الاعتقال.
يقرأ الباحث إسماعيل في هذا الانخفاض والذي بلغ 72.3% في نسبة السعرات الحرارية، على أنه يمثل، تحولا في النظام الغذائي من 3 وجبات إلى وجبة واحدة غير متكاملة، فضلا عن استهلاك الأسر لأطعمة غير صالحة (خضار تالفة، وأعشاب سامة). بالإضافة إلى تآكل الطبقة الوسطى التي كانت تعتمد على مدخراتها لشراء الغذاء.
أما فيما يتعلق بسوء التغذية والذي وصفه بأنه "قنبلة موقوتة"، فأشار الباحث استنادا إلى تقارير اليونيسف حول مؤشرات النمو للأطفال تحت الخمس سنوات، إلى أن الواقع الحاصل يشير إلى انهيار نظام الرعاية الصحية الوقائية، وتحول المراكز الصحية من علاج الأمراض إلى إدارة المجاعة، وكذلك ظهور جيل من الأطفال المصابين بتوقف النمو (Stunting) سيعاني عواقبه لعقود.
في سياق أخر، قال الباحث إسماعيل إن غزة تعاني الآن اقتصاد الندرة، أو ما يصطلح عليه "التضخم الجوعي"، بمعنى أن الأسر لم تعد تملك مالاً يؤهلها لشراء احتياجات الأساسية في ظل ارتفاع الأسعار غير المعقول.
وقال إن مؤشر الأسعار ارتفع من 100 إلى 537 نقطة (+437%) معتبراً أن هذا الرقم يشكل انعكاسا سلبيا على المواطنين على اعتبار أن تكلفة سلة الغذاء الأساسية أصبحت تحتاج 23 يوماً من العمل بدلاً من 5 أيام.
واعتبر أن هذه القفزة غير المسبوقة تعكس، تحول الغذاء من سلعة أساسية إلى سلعة فاخرة، إلى جانب، ظهور سوق سوداء للغذاء يسيطر عليها السماسرة والتجار المحتكرين، بالإضافة إلى انهيار مفهوم "الأجر الحيوي" حيث لم يعد الدخل يكفي لشراء البقاء.
وعلى ضوء المعطيات القائمة، أوضح إسماعيل أن الأزمة الحالية ليست مجرد أزمة إنسانية وإنما تحول منهجي في بنية إمدادات الغذاء، وتفكك متعمد لشبكات الأمان الاجتماعي، وهي انعكاس لاستراتيجية تجويع تتجاوز آثار الحرب التقليدية.
أزمة الغذاء بغزة