بعد 534 يومًا من الحرب على قطاع غزة، لم يترك القصف الإسرائيلي في غزة طفلًا إلا ونال منه أذًى. الأرقام الرسمية تكشف أن 7,065 طفلًا أصيبوا بإعاقات دائمة – بتر، شلل، أو فقدان بصر – أي طفلٌ من كل عشرين تحت سن الثامنة عشرة. هذه الإعاقات ليست سوى الجزء المرئي من جبل الجليد، فآلاف آخرين يعانون إعاقاتٍ نفسيةٍ لن تُحسب أبدًا.
تحوّلت غزة إلى ساحة مفتوحة للأسلحة المتفجرة التي تركت أثراً بالغا على الأطفال. أحلام صغيرة تبخرت وأجساد صغيرة تائهة بين الخيام الممزقة. طفولة ضائعة تروي فصولاً لا تُحتمل من المعاناة.
تفيد الإحصاءات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني -بمناسبة يوم الطفل الفلسطيني-إنَّ 43% من سكان فلسطين أطفالٌ.
وقد حوَّلت الحرب هذه النسبة إلى لعنة بالنسبة إلى قطاع غزة، حيث يُشكِّل الأطفال 47% من السكان، فصار كلُّ بيتٍ يحمل قصة طفلٍ اختطفته القذائف، أو طفلةٍ دفنت أحلامها تحت الركام.
وفي تحليل سردي لواقع الضحايا من الأطفال نجد أن الحرب سرقت أرواح 17,954 شهيداً، وهو رقمٌ جافٌّ على الورق، لكنه يحمل في تفاصيله آلاف القصص: رضيعٌ وُلد واستشهد قبل أن يذوق حليب أمه، طفلٌ مات من البرد في خيمةٍ لا تقي من الصقيع والمطر، وآخرون نهشهم الجوع وسقطوا بين ذراعي أمهاتهم العاجزات.
وليس بعيداً عن أطفال غزة، فقد حولت قوات الاحتلال الإسرائيلي فكرة عصب العينين من لعبة مرحة بين الأطفال، إلى لعبة مخيفة.
في قريةٍ صغيرة بالضفة الغربية، كان "يوسف" (14 عاماً) يلعب مع أقرانه حين اقتحمت قوات الاحتلال منزله ليلاً. اقتادوه مقيداً، معصوب العينين، بينما كانت أمه تصرخ: "إنه مجرد طفل!".
يوسف واحدٌ من 1,055 طفلاً مُعتقلاً، تعرَّض كثيرون منهم للضرب، أو الحرمان من الماء، أو التهديد بقتل عائلاتهم. بعضهم أُطلق سراحه لاحقاً خلال صفقة التبادل الأخيرة، لكنَّ عيونهم بقيت تحمل ذاك الخوف الذي لا يغادر.
فيما لم تعد تعرف الطفلة مريم (9 أعوام) من سكان مدينة غزة، معنى كلمة "أب". قتله قصفٌ عنيفٌ وهو يحمل كيس دقيق عائداً إلى عائلته الجائعة في شمال غزة.
مريم تلك الفتاة المبهجة تسيطر عليها الصدمة ويعقد الحزن لسانها عن الحديث، وهي واحدة من أصل 39,384 طفلاً يتيماً في غزة، بينهم 17,000 فقدوا كلا الوالدين خلال الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى الآن.
تعيش مريم الآن في خيمةٍ مع جدتها العجوز، تنتظر وجبةً غذائيةً قد لا تأتي، وتنام كل ليلة على أصوات القصف، التي صارت جزءاً من كوابيسها.
حين يصير الخبز حلماً
في مخيم النزوح، مقام إلى الغرب من محافظة خانيونس يجلس الطفل أحمد سلامة (5 أعوام) يلعق أصابعه بعد أن أنهى نصف رغيف خبزٍ حاف. بطنه المنتفخ من سوء التغذية يشبه بطون الأطفال في أفلام المجاعات البعيدة. لكنَّ أحمد هنا، في القرن الحادي والعشرين، حيث 60,000 طفلٍ مثله يعانون سوء التغذية الحاد، و12,000 على حافة الموت،
تنظر والدة أحمد التي ترتدي لابسًا بالياً مثقباً، بعينين دامعتين إلى صحة طفلتها التي تقول إنها تتراجع يوما بعد يوم، ولا تتوقع بحدوث انفراجه قريبة.
وفقدت السيدة التي كانت تعيل أسرتها ببقايا المساعدات والمعلبات، الأمل في حصول وقف لإطلاق النار أو تحسن الظروف الاقتصادية والمعيشية، قائلةً: "واضح أن القادم أسوأ".
ومن المجاعة إلى الإعاقة، حيث يعاني الطفل خالد مسعود (7 أعوام) إعاقة دائمة بعدما فقد أحد ساقيه في قصفٍ استهدف منزله في الأشهر الأولى من الحرب.
اليوم، يتدرب خالد على المشي بواسطة بمساعدة عكازين حصل عليهما بجهد جهيد عبر إحدى المنظمات الدولية.
ويعتبر خالد واحدا من أصل 7,065 طفلاً أصيبوا بإعاقات دائمة، بينهم مئات فقدوا أطرافهم أو بصرهم.
في مستشفيات غزة التي خرج معظمها عن الخدمة وتعاني تراجعا حاداً في الخدمات الصحية، يكافح الأطباء لأجل علاج نحو 846 حالة بتر بين الأطفال بأدوات بدائية، بينما تمنع إسرائيل دخول الأطراف الصناعية. تقول أم خالد: "ابني يعرف أن الحرب قد تنتهي يوماً، لكن ساقه لن تعودا أبداً".
وراء الأرقام المرئية، ثمة معاناة أخرى لا تُحسب. فالطفل محمد (6 أعوام) لم يفقد أي طرف من أطرافه، لكنه لم ينطق بكلمة واحدة منذ أن شاهد أبناء عمه يموتون تحت القصف. حالته واحدة من آلاف حالات الإعاقات النفسية التي تفتك بأطفال غزة الصامتين.
تقول الأخصائية النفسية سناء عياد: "نحاول علاج أطفال يعانون من صدمات بالغة. بعضهم فقد القدرة على الكلام، آخرون يعانون من سلس البول الليلي، وآخرون يصابون بنوبات هلع عند سماع أي صوت عالٍ".
وتشير الاخصائية إلى أن التحديدات تتزايد يوما بعد يوم بفعل تعقيدات الوضع الأمني في غزة وبخاصة مع انهيار التهدئة في الثامن عشر من مارس الماضي، وهو ما يراجع فرص تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال وأسرهم، خصوصا في ظل تكرار عمليات النزوح القسري.
ليست الإعاقة هي التحدي الصحي الأبرز الذي يعانيه الأطفال، فعودة المرض بعد ربع قرن، قد شكل صاعقة أمام المنظمات الأممية. حيث عاد شلل الأطفال إلى غزة بعد 25 عاماً من اختفائه.
الطفلة نور سليمان (3 أعوام) أصيبت بالمرض لأن الحرب منعت وصول اللقاحات. وهي من بين آلاف الأطفال الذين انخفضت نسبة تطعيمهم من 99% إلى 86%. رغم حملات التطعيم الطارئة التي وصلت 1.7 مليون جرعة، إلا أن الأمهات يخشين من انتشار جديد للمرض بين الخيام المكتظة، حيث الصرف الصحي المنهار والظروف الصحية الكارثية.
في سياق منفصل، تتعقد أزمة الغياب الأقسى في ظل غياب المعطيات الحقيقية عن مستقبل المفقودين من الأطفال. بالقرب من أنقاض منزلهم في حي التفاح، ما زالت سارة حسونة (10 أعوام) تنتظر عودة شقيقها الأكبر عبد الرحمن (17 عاماً). منذ 200 يوم وهو مدرج في قائمة طويلة تضم 11,200مفقود، 70% منهم أطفال ونساء.
تقول سارة: "أحلم أن أراه وألعب معه كما كنا، لكن أبي يقول إنه لن يعود". هذا اليأس يشكل انعكاسا لواقع معقد يعانيه ذوي المفقودين، حيث صار البحث عن المفقودين في غزة رحلة استحالة، لاسيما في ظل عدم كشف الاحتلال عن مصير الكثير من الأشخاص الذين فقدت أثارهم، ويفضل الكثير من الأهالي تبني رواية الاعتقال على القتل، إلى حين بلوغ الخبر اليقين.
التعليم.. عندما تُسرق الأقلام بالقنابل
على صعيد آخر، فإن مستقبل الأطفال التعليمي يحيطه الضبابية من كل اتجاه، مما يجعل المئات من الأطفال يواجهون أزمات نفسية على ضوء التوقف القسري عن التعليم. فتلك ليلى العسلي (14 عاماً) التي كانت تحلم بأن تصبح طبيبة، تحولت مدرستها إلى كتلة ركام في شمال قطاع غزة.
اليوم، تجلس ليلى في زاويةٍ من خيمتها المصنوعة من النايلون، تحاول متابعة درسٍ عبر هاتفٍ نادراً ما يلتقط شبكة. هي من بين 700 ألف طالبٍ حُرموا من مدارسهم، و298 ألفاً يحاولون التعلم افتراضياً رغم انقطاع الكهرباء.
الأرقام الصادرة عن المركز الفلسطيني للإحصاء تقول إنَّ 12,441 طالباً ومعلماً استشهدوا، لكن ليلى تقول: "حتى إن نجونا، كيف نتعلم ونحن لا نعرف إن كنا سنعيش حتى الغد مع عودة قرارات الإخلاء؟".
ومع كل ذلك، لكنَّ الأطفال هنا، ما زالوا يعلقون رسوماتهم على جدران الخيام. رسوماتٌ بسيطةٌ لبيوتٍ مزهرة، وشموسٍ صفراء، وأسراب حمامٍ أبيض. ربما لأنهم، بعفوية الطفولة، يؤمنون أنَّ الحرب لن تدوم إلى الأبد. لكنَّ السؤال الأصعب: كم منهم سيبقى حياً ليرى ذلك اليوم؟
موضوعات ذات صلّة:
بتر الأطراف: إرث الحرب الأشد ألماً
في حرب غزة.. الموت يلاحق ذوي الهمم
ذوو الإعاقة.. عن تحدّيات النجاة وحفظ الكرامة
مبتورو الأطراف: صعوبة في تقبل الواقع الجديد
أطفال غزة