منذ ثلاثة أشهر، أوكلت للسيدة آلاء الميناوي (34 عامًا) مهمة تنظيم طوابير النساء الممتدة أمام أحد المخابز وسط مدينة غزة، لتسهيل حصولهن على الخبز.
ترتدي الميناوي زيًا أمنيًا، وهي تحاول قدر المستطاع منع حدوث تدافع أو اقتتال بين المصطفين الذين يتزاحمون حتى يظفر كل منهم بحزمة خبز قبل نفاذ الكمية.
وتبدأ رحلة هذه السيدة مع شروق الشمس، حيث تغادر مسكنها في السابعة صباحاً، وتعود أدراجها مساءً مشيًا على الأقدام، بعد أن يكون قد نال منها التعب، بمقابل الحصول على أجر زهيد، يعينها على تحمل أعباء الحياة في ظل الظروف المعيشية المعقدة، الناتجة عن الحرب والحصار.
"لا أستطيع هدر النقود على أجرة المواصلات رغم طول المسافة لكنّي بحاجة لكل قرش"، تقول آلاء، التي تُعيل أسرة مكونة من أربعة أفراد، بينهم أطفال مرضى، في ظلّ موجبة غلاء الأسعار وصعوبة توفير احتياجات أسرتها الأساسية.
تعمل الميناوي ثلاثة أيام في الأسبوع بناظم الساعة، وتتقاضى أجرًا منخفضًا للغاية. وتقول: "أعمل سبع ساعات يوميًا مقابل 40 شيكلًا فقط، وأحيانًا يكون دخلي الأسبوعي 120 شيكلًا. وهذا المبلغ بالكادّ يكفي لشراء الطعام".
يعاني طفلها "عيسى" من ضمور في الدماغ، بينما ابنتها "رقية" مصابة بشللٍ دماغي ومتلازمة داون، إضافة إلى ابنة أخرى تعاني من نزيف رئوي حاد وتحتاج إلى أكسجين دائم.
تتابع آلاء حديثها بحزن: "الأدوية غالية جدًا، ولا أستطيع توفيرها بسهولة، كما أنّ الأجر الذي أتلّقاه بالكادّ يغطي جزءًا من احتياجاتنا".
تضيف آلاء أن الوضع أصبح أكثر صعوبة بعد أن دمر الاحتلال منزلها في مدينة الزهراء وسط القطاع جرّاء الحرب الإسرائيلية المستمرة، ما دفعها للانتقال مع أطفالها إلى استشجار شقة غرب مدينة غزة. ووسط ظلّ هذه الظروف، تجد نفسها محاصرة بين حاجةٍ ماسّة للعمل من جهة، وأعباء العناية بأطفالها من جهةٍ أخرى.
تُعقّب على هذا الظرف المعيشي البائس بالقول: "أتحمل نفقات كبيرة فزوجي لا يعمل منذ فترة طويلة بسبب انعدام الفرص، وأنا أعمل وحدي لسدّ احتياجات العائلة".
ويعتمد السكان في غزة في الحصول على الخبز، على المخابز التجارية اعتمادا اساسياً، في ظل منع الاحتلال الإسرائيلي تدفق الدقيق عبر المعابر ووقف المساعدات عن غزة منذ مطلع مارس الحالي.
في ظل الحاجة الماسة للحصول على الخبز، تشهد المخابز تزاحما شديدا ونزاعا بين مئات المصطفين أمام البوابات الحديدية التي يصطلح عليها محلياً بـ"الحلابات"، وهي عبارة عن ممر يسمح بعبور الأشخاص تباعاً واحد تلو الآخر محاط جانبيه بأسوار وأسلاك شائكة، للحول دون التدافع، ومع ذلك يحصل العكس.
هذا الواقع المليء بالفوضى والعنف، يعقد من مهمة السيدة الميناوي، ومع ذلك تجد نفسها مضطرة لاحتمال كل ذلك في سبيل الحصول على أجر يعينها على تلبية الحد الأدنى من احتياجات الأسرة التي تتعاظم مع الارتفاع المطرد للأسعار.
غير أن الميناوي وغيرها العديد من العاملات كسيدات أمن في المخابز، يشعرن بالأسف نتيجة حالة الاستغلال التي تعاني منها في سوق العمل، وفقًا لشكاوى بعضهن.
تتبنى آلاء الدفاع عن حقوق زميلاتها قائلة: "أنا لا أعمل وحدي، في أمن المخابز، هناك الكثير من النساء يشتغلن في نفس المجال، كما أنّ بعضهن معاناتهن أكبر من معاناتي. وكثير منهن يتعرّضن لإهانات لفظية وأحيانًا جسدية".
وأوضحت أن هذا الواقع يعقد من التحديات التي تواجهها النساء، وبخاصة أنه يضاعف العبء النفسي عليهن، حيث يجدن أنفسهن مجبرات على تحمله في سبيل الحصول على لقمة العيش.
لم تكن آلاء السيدة الوحيدة التي سجلت معدة التقرير شكواها، حيث التقت عدد من النساء الأخريات العاملات في المخابز، لكنهن فضلن عدم الكشف عن اسماءهن.
إحداهن قالت وهي ترتدي كمامة تغطي ملامحها: "نواجه الإهانة يوميًا من قبل الزبائن، وكثير من الناس يرفضون الاصطفاف في الطابور ويصرخون في وجهنا، كما يتعرض بعضنا للضرب أحيانًا. لكننا لا نملك خيارًا آخر، فالعائد المادي الذي نتلّقاه على الرغم من قلّته لكنه يُعيننا للبقاء على قيد الحياة".
وطبقاً لإفادة عدد منهن، فإنهن تراجعن مراراً عن قرار التوقف عن العمل بسبب الحاجة المُلّحة إلى مصدر دخل.
تقول عاملة أخرى: "نحن نضطر لتحمل ظروف نفسية قاهرة، فالكثير من الزبائن يعاملوننا بطريقة قاسية، ونشعر بالإهانة طوال الوقت، إضافة إلى أننا نعمل لساعاتٍ طويلة في هذه الظروف؛ لكن الاحتياج إلى المال يجعلنا نتغافل في كثير من الأحيان".
ولا توجد إحصاءات دقيقة حول اعداد العاملات في هذا المجال، لكن قبل بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر 2023، كانت نسبة النساء اللواتي يشاركن في القوى العاملة تتراوح بين 17% و19%. لكن نتيجة الحرب ارتفعت معدلات البطالة إلى ما يزيد عن 80%، وهي أرقام تعكس واقعًا مأساويًا على جميع الفئات المجتمعية لا سيما النساء باعتبارهن من أكثر الفئات المجتمعية هشاشة.
وفي واقع الأمر، تحصل النساء على أجور أقل من الرجال في قطاع غزة منذ ما قبل اندلاع الحرب، وهذا التمييز يرجعه المختص الاقتصادي سمير أبو مدللة، إلى تضخم نسب البطالة واضطرار النساء للعمل لأجل تغطية احتياجاتهن الأساسية.
وقال أبو مدللة، إن العديد من النساء يتعرضن للاستغلال خاصة في الأوقات الصعبة مثل الحروب أو الأزمات التي تندر فيها فرص العمل، فيجدن أنفسهن مجبرات على العمل في مهن شاقة ومؤرقة كالمخابز مثلا، بغية تحسين وضعهن الاقتصادي".
ولفت إلى أن قيمة أجور النساء تقل بنحو 60% مقارنة بالرجال في العديد من القطاعات، سواء في الزراعة أو الخدمات، رغم أنهن يعملن في نفس الظروف.
هذا التمييز، دفع سناء خليل إحدى العاملات في شركات الأمن (*) لاتخاذ قرار بالتوقف عن العمل رغم حاجتها الشديدة للدخل المادي، وقالت إنني توقفت عن العمل قبل اندلاع الحرب، وذلك لأنني واجهت انتهاكا لحقي في الحصول على أجر لائق، وهذا ما كان يجعلني أعيش صراعاً نفسياً ووجدت أن الخلاص منه يستوجب التوقف عن العمل.
وإذا كانت سناء قد استطاعت أن تتخذ قرارا كهذا، فإن الكثير من النساء ربما لم تسعفهن حاجتهن إلى المال للحذو حذوها، وهو ما يجعلهن يصارعن آلاما نفسية قاهرة خلف جدار الصمت.
ويذهب المختص النفسي والاجتماعي، عرفات حلس، إلى أبعد من ذلك، في تأكيده على أن عمل النساء في هذه البيئة المعقدة والاستثنائية لا يعرضهن فقط لضغوط نفسية واجتماعية كبيرة، بل أيضاً يعرضهن للمخاطرة بأرواحهن لأنهن يعمل في ظروف غير آمنة وتحت تهديد القصف أيضاً.
وقال حلس إن التحديات التي تواجهها النساء العاملات في المخابز، متعددة الأوجه، جزء منها يتعلق بطول ساعات العمل إلى جانب العنف الذي من الممكن أن يتعرضن له، فضلا عن تدني الأجور، جميعها عوامل تشكل عبئًا نفسيًا وجسديًا عليهن".
وأشار إلى أن العمل في بيئات مرهقة مثل المخابز له تأثير كبير على العلاقات الاجتماعية للمرأة العاملة حيث تعتبر هذه الوظيفة خشنة وغير متوافقة مع طبيعة المرأة الأنثوية.
وقال "قد تؤدي هذه المهمة، إلى تغيرات في سلوك المرأة وطريقة تعاملها مع الآخرين، ناهيك عن أن العمل في بيئات متوترة قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية خطيرة، خصوصًا عندما يتعين على الشخص تحمل الإهانات وضغط العمل المستمر".
ويتوقع أن يقود هذا الوضع، إلى القلق المزمن، والاكتئاب، وأحيانًا إلى اضطرابات نفسية مثل الأرق وفقدان القدرة على التكيف مع البيئة المحيطة، لهذا قال: "تحتاج النساء العاملات في هذه الظروف إلى دعم نفسي واجتماعي لضمان صحتهن النفسية ورفاهيتهن".
في المقابل، حملت الناشطة النسوية أريج الأشقر الحكومة والمجتمع، مسؤولية حماية حقوق المرأة، قائلةً: "يجب توفير فرص عمل لائقة من خلال دعم مشاريع اقتصادية تتلاءم مع احتياجاتهن".
وأضافت الأشقر، أنّ المؤسسات الحقوقية يقع عليها عبء تعزيز حقوق المرأة وحمايتها، خاصّة بعدما حوّلت الحرب على غزة معاناة النساء إلى معركة شديدة للبقاء، إذ يواجهن تحدّيات متعددة بدءًا من فقدان الأحباء وصولاً إلى العيش في ظروف غير إنسانية كالخيمة مثلا، وليس انتهاءً بالبحث عن لقمة العيش في ظروف قاسية.
وذهبت مسؤولة لجنة المرأة في اتحاد نقابات عمال فلسطين سميرة عبد العليم، إلى ما ذهبت إليه سابقتها، في التأكيد على أن المسؤولية الكاملة تقع على عاتق المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني.
لذا طالبت عبد العليم في سياق حديثها مع معدة التقرير، بضرورة أن توفر الحكومة وظائف تحترم كرامة النساء، وأن تسهم في دعم مشاريع اقتصادية تضمن لهن حياة كريمة، بعيدًا عن استغلالهن في أعمال لا تراعي حقوقهن البتة.
كما أكدت أن مؤسسات حقوق الإنسان، يجب أن تلعب دورًا أكبر في حماية النساء، خصوصًا في ظلّ الظروف الاقتصادية المتدهورة التي يعيشها قطاع غزة.
وقالت مسؤولة لجنة المرأة في اتحاد نقابات العمال: "إن المرأة بحاجة إلى تنظيم عملها، وعدم تسخيرها وفقًا لأساليب اجتماعية غير لائقة"، مؤكدة أن النساء أصبحن فريسة للعمل غير المنظم، مثل العمل في المخابز أو تقديم خدمات للعائلات النازحة مثل غسل الملابس، دون حماية أو رقابة، وهو ما يُفاقم معاناتهن ويفرض عليهن ظروف عمل غير إنسانية، مع غياب أي شكل من أشكال الحماية.
وتابعت قولها: "هذه الأعمال غير محمية قانوناً، حيث أنهن (أي النساء) يعملن تحت تهديد القصف والمخاطر اليومية، دون رقابة أو حماية من الجهات المسؤولة".
يتفق المستشار القانوني لمؤسسة الديمقراطية لحقوق العاملين علي الجرجاوي، مع حديث السيدة "عبد العليم"، في التأكيد على أن بعض النساء العاملات يواجهن انتهاكا لحقوقهن في ظروف عمل غير لائقة.
أمام هذه القائمة من بنود القانون قال الجرجاوي "من الناحية القانونية، يجب أن تحصل النساء العاملات على حقوقهم الأساسية، مثل أجور عادلة، ساعات عمل محددة، وظروف عمل ملائمة، وهذا غير متوفر في كثير من الحالات".
وتسبب تعطل القانون بسبب الحرب وغياب أدوات الرقابة الفاعلة المناطة بوزارة العمل، بحسب ما أشار إليه المستشار القانوني، إلى تهرب أصحاب العمل من تطبيق القانون، والالتزام بدفع أجور تتوافق مع ساعات العمل للنساء العاملات.
كما أوضح أن قرار الحدّ الأدنى للأجور ينص على صرف راتب 1880 شيكل شهريًا، و65 شيكل للعاملين بشكل يومي، وعشرة شواكل ونصف لنظام الساعة،
"لكن هذا غير مطبق حتى من قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، فما بالك في حالة الفوضى التي نعيشها حاليا؟"، حسبما قال.
وأصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس قرارًا لقانون 34 لعام 2023 بتعطيل مدد التقادم في قطاع غزة بسبب الحرب، بمعنى إذا كان هناك حقوق للعامل لا تسقط بالتقادم، وهذا يعتبر إنجازا قانونيًا للحفاظ على حقوق العاملين، وفق الجرجاوي.
وبحسب قانون العمل الفلسطيني، لا يجوز للمرأة أن تعمل في ظروف تهدد صحتها النفسية أو الجسدية، ويجب أن تُعطى أجرًا يتناسب مع ساعات عملها وجهدها.
وعليه قال الجرجاوي: "من الواضح أن حقوق هؤلاء النساء في المخابز يتم انتهاكها بشكل مستمر، ما يتطلب تدخلاً من النقابات العمالية والمجتمع المدني لحماية حقوقهن".
في ضوء ذلك، حاولت معدة التقرير التواصل مع وزارة العمل في غزة، للوقوف على الدور الذي تلعبه حيال التفتيش على واقع العمل، وحفظ حقوق العاملات من النساء، لكن الظروف الأمنية المعقدة حالت دون الحصول على رد.
ومما هو واضح، فإن المطالبات التي نادى بها المختصون والمستشارون ستظل كمن يصرخ داخل صندوق مغلق، لأن الصوت الوحيد الذي يتردد صداه الآن هو صوت الفوضى، فيما يعني استمرار تغييب حقوق النساء العاملات عبر المدى المنظور، لكن ذلك لا ينفي قدرتهن في المستقبل القريب على المطالبة به، لطالما أنه لا يسقط بالتقادم.
موضوعات ذات صلّة:
بفقدان الجمعية الشهرية: اقتصاد نساء غزة ينهار
هكذا حُكِم على شباب غزة بالأشغال الشاقة
استغلال النساء العاملات عبر أجور ضئيلة في غزة
النساء العاملات في غزة.. ظروف عمل سيئة وأجور متدنية تفاقم معاناتهن