الغلاء يحرم كسوة العيد على أجساد الفقراء

لا وقت مستقطع للفرحة

الغلاء يحرم كسوة العيد على أجساد الفقراء

دخل الطفل أنس (6 أعوام) من سكان مدينة غزة، في نوبةِ بكاءٍ بعد رفض والدته شراء طقم العيد الذي كان قد أعجبه في أحد المحالّ، والسبب أن سعره عالٍ. ومن فورها قارنت الأم ثمن الطقم البالغ 220 شيكلًا (ما يُعادل حوالي 70 دولارًا أمريكيًا) بما يمكن أن تقتنيه من غذاء بنفس القيمة، وأعطت الأولوية للأخير في ظل محدودية تلقي المساعدات.   

والدة أنس، وتدعى إسلام عامر (35 عامًا)، هي أمّ لثلاثة أطفال، كانت تتجول بين محال الملابس في حي الرمال وسط المدينة، في محاولة لشراء ملابس جديدة لصغارها بعدما فقدت منزلها في الحرب، وتقيم مؤقتاً هي وأسرتها في كنف أحدّ الأقارب. 

تقول إسلام لـ "آخر قصة" بصوتٍ منهك: "فقدت كل شيء في الحرب، بما في ذلك ملابس أطفالي. ولكن عندما قررت شراء ملابس جديدة لهم بمناسبة العيد، وجدت أنّ الأسعار لا تتناسب مع إمكانياتي. فكيف لطقم للأطفال بين 4 و8 سنوات أن يتجاوز 200 شيكل؟".

وتعتمد أسرة إسلام على راتب الزوج الذي يعمل عن بُعد، ويتلقى راتبا قدره (500 دولار أمريكي)؛ إلا أنّه يُنفق بالكامل على متطلبات المنزل الأساسية من طعام، وماء، وبدائل الكهرباء، إلى جانب اعتمادهم على المساعدات الإنسانية في توفير جزء من احتياجات البيت، فيما ترى الأسرة أن تكاليف الملابس عبئًا إضافيًا هائلًا على كاهلها لا يمكنها احتماله.

تردف اسلام: "إذا أردت شراء ملابس لأطفالي وزوجي ولنفسي، فإنني سأحتاج إلى حوالي 300 دولار أمريكي، وهو مبلغ يفوق قدرتنا الحالية؛ لذا قررت تأجيل الشراء حتى تنخفض الأسعار، وليس هناك أفق إذا ما تحقق ذلك في المنظور القريب، حيث أن أسعار الملابس تشهد ارتفاعاً كبيراً منذ أشهر".  

وشهد قطاع غزة ارتفاعًا كبيرًا في أسعار السلع عمومًا، بما في ذلك الملابس التي ارتفعت تدريجيا بشكل هائل، إثر إغلاق الاحتلال الإسرائيلي لمعابر قطاع غزة منذ الثاني من مارس الحالي وإلى أجلٍ غير مسمى.

يعاني حوالي مليوني ونصف نسمة في قطاع غزة من الارتفاع المبالغ فيه الأسعار في ضوء غياب أدوات الرقابة الفاعلة، وسط حرب وحصارٍ خانق منذ أكتوبر 2023. وطبقاً لجهاز الإحصاء الفلسطيني فإن الناتج المحلي الإجمالي يشهد انخفاضا حادا بالأسعار الثابتة خلال الربع الرابع من العام 2024. وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في قطاع غزة بنسبة 42% مقارنة مع الربع المناظر.

علاء يونس، البالغ من العمر 45 عامًا، أب لستة أطفال، عبّر عن صدمته من الأسعار المرتفعة في السوق. وكان قد خصص ميزانية 200 دولار لشراء ملابس العيد لأطفاله؛ إلا أن هذا المبلغ لم يكف لتغطية كافة أفراد الأسرة. 

وقال الرجل الذي يعمل موظفًا في القطاع الحكومي ويتلقى راتبا قدره (3000 شيكلاً)، ويضطر إلى دفع عمولة تتراوح قيمتها ( 20-30%) بمقابل سحبه عبر محال الصرافة، "لأن الأسعار غير معقولة، قررت أن أكتفي بشراء ملابس لطفلتي الصغرى، لكن ذلك لم يكن عدلاً من وجهة نظر أشقاءها الذين يكبرونها سناً لكني في الواقع لا أستطيع شراء ملابس جديدة لجميع الأبناء".

وبعيدًا عن معاناة العاملين في القطاع الحكومي أو الخاص الذين يتلقون رواتبهم عبر البنوك ويضطرون لدفع عمولاتٍ باهظة لقاء سحبها بطريقة الكاش، فإنّ السواد الأعظم من السكان عاطلين عن العمل ويعتمدون بشكلٍ أساسي على مساعدات الإنسانية من المنظمات المحليّة والدولية.

فتلك، سحر سالم (34 عامًا)- نازحة تقطن مع أطفالها في خيمة من النايلون بمخيم دير البلح وسط قطاع غزة، وسط ظروفٍ معيشية متردية للغاية- تجد في شراء ملابس عيد لصغارها ترفاً أمام الاحتياج الماس للطعام والشراب.

تقول سحر التي لا تستطيع توفير أدنى احتياجات الأسرة الأساسية من أكل ومشرب، إن هناك احتياجا ماسا للملبس لكن اقتناءه أصبح حلمًا بعيد المنال في الوقت الراهن.

وأضافت السيدة التي احدودب ظهرها من مسؤوليات رعاية الأبناء، بما في ذلك التحطيب ونقل جالونات المياه وغيرها من أعمال شاقة، "كان زوجي عاملًا في مصنع بلاستيك ودمر المصنع نتيجة الحرب، ثم أننا نزحنا من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، فأصبح عاطلاً عن العمل ويعاني ألاما مختلفة مما يعجزه عن المساعدة في الأعمال اليومية"، مشيرة إلى أن أسرتها تعتمد اعتمادا كليا على المساعدات الإنسانية في تأمين احتياجاتها الأساسية.

تردف وملامح حزنٍ قد ارتسمت على وجهها الذي اكتسب سمرة وشحوبًا، "في طريقنا لتلقي مساعدةٍ ما، طلبت منّي صغيرتي شراء فستانًا بتكلفة 100 شيكلا، وتلك قيمة أعجز  عن دفعها، لذا شعرت باليأس وقلة الحيلة أنني لم استطلع أن ألبي احتياجات أطفالي".

ومن الناحية القانونية، يشكل إغلاق المعابر ومنع دخول السلع والبضائع إلى قطاع غزة انتهاكًا لحقوق المدنيين، حيث يحرمهم من حقهم في الحصول على احتياجاتهم الأساسية.

كما يزيد هذا الإغلاق المستمر من معاناة الأسر، وبخاصة تلك التي فقدت مصادر رزقها بسبب الحرب، بما في ذلك الفئات الهشة من النساء وكبار السن وذوي الإعاقة. مما يُعمِّق الأزمات الاقتصادية والنفسية لتلك الفئات. الأمر الذي ينظر له على المستوى القانوني على أنه يُشكِّل خرقًا للقانون الدولي الإنساني، الذي يضمن حق المدنيين في الحصول على المساعدات الأساسية في أوقات الحرب والأزمات.

الإنهاك النفسي الذي يتعرض له سكان غزة، لاسيما الفئات الهشة نتيجة عدم القدرة على تلبية احتياجاتهم الأساسية بما في ذلك الملبس، من المرجح أن يتضاعف في المستقبل إذا لم تتوفر هناك حلولاً سريعة لمواجهة أعباء الحياة، وفق ما يرى المختص الاجتماعي والنفسي، درداح الشاعر.

 يقول الشاعر في سياق حديثه لـمراسلة "آخر قصة" إنّ عدم قدرة الأسرة على تأمين الملابس لأطفالها يمثل أزمة نفسية واجتماعية كبيرة، خصوصًا في ظلّ الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها المواطنون في غزة. إذ يشعر الأطفال بالحرمان وهذا يؤثر على ثقتهم بأنفسهم ويزيد من مشاعر الخيبة والقلق لدى أولياء أمورهم.

وأضاف: "تتحمل الأمهات على وجه الخصوص عبئًا نفسيًا ثقيلًا عندما تجدن أنفسهن غير قادرات على تلبية رغبات أطفالهن، وهو ما قد يؤدي إلى شعورهن بالعجز والفشل، ويعمق هذا الوضع مشاعر الضعف ويخلق حالة من التوتر العائلي الذي قد يؤدي إلى مشكلات اجتماعية أوسع في المجتمع".

من ناحيةٍ أخرى، يعكس ضعف القدرة الشرائية جرّاء ارتفاع الأسعار في الأسواق الغزية تردي الأحوال المعيشية لعموم سكان قطاع غزة وحالة الانهاك الاقتصادي الذي تعانيه الأسر، في ظلّ ارتفاعٍ غير مسبوق لمستويات الفقر التي وصلت إلى أكثر من 90%، وقفزة هائلة في معدّل البطالة من 45% قبل الحرب، إلى 80% بعد الحرب؛ مما يشير إلى فقدان العديد من الغزيين لوظائفهم ومصادر دخلهم.

واقع جعل العديد من المواطنين يتساءلون حول دور أجهزة الجهات الرقابية في غزة في مكافحة غلاء الأسعار قبل قدوم عيد الفطر ، خاصّة في قطاع المنتوجات والملابس؛ لكن وزارة الاقتصاد الوطني وحماية المستهلك أشارت إلى أنها لا تقوم حالياً بأي دور في ضبط الأسعار، واكتفت بنشر لائحة استرشادية للأسعار تخص المواد الغذائية فقط؛ ولم يلتزم فيها السوق المحلي؛ مما يظهر عجز الجهات المسؤولة عن فرض الرقابة الفعالة.

وفي تبريريه لارتفاع أسعار الملابس، قال صاحب متجر وسط سوق عمر المختار (فضَّل عدم ذكر اسمه): "تكاليف الشحن من الخارج أصبحت باهظة للغاية، فبعد اندلاع الحرب، أصبحت تكلفة شحن الحاوية الواحدة تصل 170 ألف شيكل، بينما كانت القيمة سابقاً 20 ألف شيكل. كما أن التكاليف الجمركية والنقل عبر معبر رفح تضاعفت بشكلٍ كبير، مما أثر على الأسعار ، وبالتالي انعكس ذلك على المستهلك".  

وأكّد صاحب متجر الملابس أن هامش الربح لديه يتراوح بين 10-20% فقط، مشيرًا إلى أن هذا الربح بالكادّ يغطّي تكاليف التشغيل مثل الإيجار، وأجور العمال، وبدائل الكهرباء، التي ارتفعت بشكل كبير في الآونة الأخيرة.

بيد، أن المختص في الشأن الاقتصادي، أحمد أبو قمر، كان له رأي ثاني، إذ أرجع الارتفاع في أسعار الملابس إلى زيادة تكاليف الإنتاج، بما في ذلك ارتفاع أسعار المواد الخام من الأقمشة والوقود، بالإضافة إلى التكاليف الثابتة مثل الإيجار وأجور العمال. هذه الزيادة في التكاليف تُثقل كاهل التجار، مما يؤدي إلى تأثيرها المباشر على المستهلكين.

وأشار أبو قمر إلى أن تضخم الأسعار في مختلف القطاعات قد استنزف جيوب المواطنين، مما أثر على قدرتهم الشرائية، مؤكداً أن هذا الارتفاع في الأسعار هو أمر طبيعي بالنظر إلى تدمير المصانع وارتفاع التكاليف التشغيلية.

ورهن المختص الاقتصادي، عودة الأسعار في السوق المحلي إلى سابق عهدها، بانخفاض التكاليف الإنتاجية والسماح بدخول المعدات اللازمة لمصانع الألبسة المحلية.

في ظل الأوضاع الصعبة التي يعاني منها القطاع، يبقى غلاء الأسعار هو الهمّ الأكبر الذي يواجهه المواطن الغزي. فبينما يحاول البعض تكييف أوضاعهم المالية لمواكبة العيد، يبقى الفقر والعوز عائقًا كبيرًا أمام توفير أبسط احتياجات الأطفال في غزة، ومنها الملابس الجديدة.

لكن المختص الاجتماعي والنفسي "الشاعر" قال إنّه من الضروري أن يتعامل الأهل مع هذه الحالة بحذر، من خلال توعية الأطفال بقدرات الأسرة المالية؛ ما يساعد في تقبل الواقع بشكل أفضل. ومن المهم أيضًا أن نُعلم الأطفال قيمة المال وأن يتعلموا الصبر والتكيف مع إمكانيات الأسرة، وواقع الحياة الناتج عن الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهها الجميع".

 

موضوعات ذات صلّة:

في ظل الفقر المدقع: البالة قبلة النازحين والمشردين

أسواق غزة تعاني تشوهًا اقتصاديًا

التقشف الإجباري: قصص محزنة وأرقام صادمة

الحرب تنسف موسم العيد في غزة... غلاء وجوع وخوف

 "العيد يكشف فقرنا".. أسواق الملابس المستخدمة متنفس الأسر النازحة والمعدَمة