حتى لا تتحول معادلات الغذاء إلى شواهد قبور

الطعام المحاصر

حتى لا تتحول معادلات الغذاء إلى شواهد قبور

يُطفئ الخمسيني "أبو عمار" القاطن في مخيم دير البلح وسط قطاع غزة، فرنه الحجري للمرة الثالثة هذا الأسبوع. يقول بينما يمسح دقيق القمح عن يديه، "هذه الأكياس كانت آخر ما تبقى من المساعدات التي تلقيناها قبل الهدنة، والآن الغالبية من الأسر فقدت مخزونها من الدقيق".

هذا المخبز اليدوي كان يعمل يومياً نحو ثمان ساعات على الأقل، لكنه الآن وبفعل شُح الدقيق بات يعمل ساعات محدودة، وفي الغالب يغلق أبوابه نظراً لمحدودية الزبائن.

كلمات أبو عمار، تعكس حقيقة محدودية مخزون الدقيق لدى سكان القطاع الذين يعيشون تحت ظلال الحرب منذ نحو 17 شهراً، والذين يعانون الأمرين نتيجة إغلاق المعابر منذ مطلع مارس الحالي. وتكشف أرقام برنامج الأغذية العالمي عن مفارقة قاسية حيث أن (40 ألف طن) من الغذاء دخلت غزة خلال 42 يومًا من الهدنة، لكن (63 ألف طن) أخرى خلف بوابات المعابر منذ الثاني من مارس، وكأنّها سجينة في "مستودعات الانتظار".

لقد قمنا بتحليل البيانات المتعلقة بمخزون الأغذية في قطاع غزة وفقًا لمعطيات برنامج الغذاء العالمي. يتضح من خلال التحليل أنه خلال 42 يوما من الهدنة تمكن البرنامج وهو الوحيد تقريبا الذي يملك القدر ة على إدخال المساعدات الغذائية إلى السكان. من إيصال أكثر من 40,000 طن متري من المواد الغذائية إلى غزة، وقدَّم مساعدات منقذة للحياة إلى 1.3 مليون شخص.

بمعنى أن كل يوم من الهدنة شهد إدخال 952 طنًّا من الغذاء بما ساهم في توفير (30,952 وجبة ساخنة) يومياً إلى السكان الذين يعتمد نحو 80% منهم على المساعدات الإنسانية في ظلّ انعدام فرص العمل ومحدودية الدخل.

كما قدم البرنامج أكثر من 6.8 مليون دولار أمريكي كمساعدات نقدية إلكترونية (المحافظ الإلكترونية) لدعم 135,000 شخص (أي بما يعادل 26,600 أسرة)، مما ساعد الأسر على شراء احتياجاتها الأساسية، خلال تلك الفترة.

من خلال التحليل تبين أن المساعدات النقدية كانت كافية لشراء 5.6 مليون رغيف خبز على الأقل بالنسبة لسكان غزة الذين لا يملكون مخزوناً كافياً من الدقيق في ظلّ إغلاق جميع المعابر الحدودية أمام المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الوقود والذي أدّى نقصه إلى إغلاق 6 مخابز في القطاع المحاصر.

في منتصف مارس الحالي أوضح برنامج الغذاء العالمي أن لديه مخزونًا غذائيًا يكفي لدعم المطابخ والمخابز العاملة لمدة تصل إلى شهر، بالإضافة إلى طرود غذائية بها أطعمة جاهزة للأكل تكفي لـ 550,000 شخص لمدة أسبوعين.

لدى برنامج الأغذية العالمي نحو 63,000  طن متري من المواد الغذائية المخصصة لغزة، مخزنة في المنطقة أو في طريقها إلى الوصول إليها. وهي بانتظار التصاريح اللازمة لدخول غزة.

السيناريو الكابوس:

إذا لم تترجم الأرقام إلى خبز يعني أننا سنصبح أمام كارثة حقيقية حيال استمرار منع إدخال المساعدات الغذائية إلى السكان، حيث أنّ 63 ألف طنّ العالقة، لو دخلت غزة لكانت تكفي لصنع 126 مليون رغيف خبز على الأقل، وتُغطي بذلك احتياجات 1.1 مليون شخص لمدة 90 يومًا.

لكن السؤال: لماذا لا تدخل هذه المساعدات؟ مع إغلاق المعابر التجارية مع غزة تحاول إسرائيل تكثيف الضغط على حركة حماس لتمديد اتفاق المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، وعدم الدخول إلى المرحلة الثانية التي تستلزم حسب الاتفاق انسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلي من القطاع تماماً، وإعادة حماس لباقي الرهائن وإطلاق سراح معتقلين فلسطينيين، في المقابل مع تنفيذ الشرط الأبرز المتمثل في وقف الحرب وهو ما ترفضه إسرائيل.

غير أن تحليل لوثائق الأمم المتحدة يُظهر أن 72% من شاحنات برنامج الغذاء العالمي تحتاج إلى خمس موافقات أمنية من أطراف متعددة من أجل إيصالها إلى غزة، التي تشهد قصفاً جوياً إسرائيلياً عنيفاً منذ الثامن عشر من مارس الحالي، بفعل انهيار وقف إطلاق النار.  

ومن الناحية العملية، يتعارض هذا الفعل مع ما تنصّ عليه المواثيق الدولية والتي اعتبرت أنّ تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب محظور حظرًا مطلقًا بموجب القانون الدولي الإنساني.

في هذا الصدد يضع القانون الدولي الإنساني قائمة غير حصرية تضم "الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين علي قيد الحياة" التي يُسبغ عليها القانون حماية مُعززة، ومنها المواد الغذائية والمناطق الزراعية والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري. ويحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل هذه الأعيان إلا في حالاتٍ استثنائية للغاية.

وخلال الأسبوع الأول من مارس/آذار، واصل البرنامج أنشطته في غزة باستخدام المخزون الذي تم جلبه خلال الهدنة (19 يناير- 18 مارس)، حيث قدم المساعدات الغذائية لنحو 73,000 شخص من المستضعفين. وطبقا لمعلومات البرنامج فإنه وكما كان الحال قبل الهدنة، يعمل برنامج الغذاء العالمي على تقليل كميات الطرود الغذائية الجاهزة للأكل التي يتم توزيعها للأسر لضمان استمرار الإمدادات والوصول إلى المزيد من المحتاجين.

حاليًا، يدعم البرنامج 33 مطبخًا في مختلف أنحاء غزة، حيث توفر 180,000 وجبة ساخنة يوميًا، كما يدعم حاليا نحو 19 مخبزاً لاتزال تقوم على تقديم الخدمة للسكان، من أصل 25 مخبزاً.  

مع إغلاق المعابر في الثاني من مارس أي قبل انهيار التهدئة بنحو أسبوعين، شهدت أسعار المواد الغذائية التجارية ارتفاعاً بشكلٍ حادّ. وفي بعض الحالات، ارتفعت أسعار السلع الأساسية مثل الطحين والسكر والخضروات بنسبةٍ تزيد عن 200% وبدأ التجار في حجب البضائع بسبب عدم اليقين بشأن موعد وصول الإمدادات الجديدة.

ووفقا لقواعد الدومينو، فإن إغلاق المعابر قاد إلى ارتفاع الأسعار نسبة 200%، ترافق ذلك مع تخزين التجار للسلع الأساسية، ما أدى إلى انهيار القوة الشرائية.

أم سامي الشاعر، نازحة من رفح أقصى جنوب قطاع غزة، إلى محافظة خانيونس وتقيم في خيمة على بعد امتار  من شاطئ البحر، تشرح بينما توزع حصتها من الأكل  الجاف "الهدنة جعلتنا نحلم، فهذه العلبة (تشير إلى طرد غذائي) كانت تكفينا أسبوعًا، الآن نُقسّمها على 10 أيام، حتى الدقيق صار  شحيح جداً ونخشى أن نفقده خلال أيام".

تؤكد السيدة الشاعر (43 عاماً) طرد الغذاء الذي كانت قيمته 12 دولارًا خلال الهدنة، تتجاوز قيمته الآن 50 دولارًا في السوق السوداء، وهو انعكاس واضح لحجم الارتفاع الذي تشهده السلع الأساسية، مما يضاعف العبء الملقى على كاهل السكان، وبخاصة الفئات الهشة وعلى رأسها النساء وذوي الإعاقة وكبار السن.

ويتبين من خلال الأرقام أن المخزون الحالي يُكافئ لنحو أسبوعين من الصمود على أبعد تقدير، لكن الأسعار ترتفع بنسبة 15% يوميًا. السؤال الذي تُجاهد الأرقام للإجابة عليه: كم من الوقت يمكن أن تنتظر غزة قبل أن تتحول معادلات الغذاء إلى شواهد قبور؟

وطبقا لتحليل المخاطر، فإنّ مع استمرار إغلاق المعابر لأسبوعين آخرين، سوف تتوقف نحو 90% من المخابز عن العمل، فيما أن 55% من الأسر سوف تعتمد على "الأعشاب البرية" كمصدر غذاء أساسي (وفق نمذجة الكوارث)، كالاعتماد على نبتة الخبيزة مثلاً؛  لذلك يجب التدخل الدولي الفوري لوضع حدَّ لهذه الكارثة.

 

موضوعات ذات صلّة:

التقشف الإجباري: قصص محزنة وأرقام صادمة

اقتصاد الحرب: أبرز تحولات سلوك الأفراد والأسواق

كم تحتاج سلة غزة الزراعية وقتًا للتعافي

بيع المصاغ والأثاث آخر الحلول لمواجهة الجوع