الفلافل: رفيق ثقيل على المعدة خفيف على الجيب

الفلافل: رفيق ثقيل على المعدة خفيف على الجيب

في شوارع غزة، حيث يختلط حديث المارة مع أصوات الباعة المتجولين، تعلو رائحة مميزة تفوح من الأكشاك والبقالات الصغيرة التي أقيمت بين الأنقاض وفي الأسواق الشعبية.  

إنها رائحة الفلافل، تلك الكرات الذهبية المقرمشة التي تُقلى في الزيت النباتي، لتصبح وجبةً خفيفةً في الظاهر، لكنها ثقيلةٌ في مذاقها وقيمتها. فالفلافل ليست مجرد طعام؛ إنها قصة وجبة شعبية، وحكاية تراث، ويزاحم الأطباق في موائد إفطار الصائمين في رمضان، كما أنه رفيق لا يفارق الموائد سواء في زمن السلم أو في أحلك أيام الحرب.  

يعود أصل الفلافل إلى قرون مضت، حيث كانت البقوليات، وخاصة الحمص، مصدرًا رئيسيًا للبروتين في المناطق التي تعاني من شح اللحوم.

يقول المؤرخون إن الفلافل ظهرت أولاً في مصر والسودان، ثم انتشرت في بلاد الشام، لتجد طريقها إلى قلب المطبخ الفلسطيني. ومع مرور الوقت، أصبحت الفلافل جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الغذائية الفلسطينية، بل رمزًا للهوية والانتماء.

"الفلافل هي تاريخنا على المائدة"، يقول أبو محمد حرب (57 عاماً)، بائع فلافل في مدينة غزة، منذ أكثر من ثلاثين عامًا. "لقد تعلمت صناعة الفلافل مذ كنت في العاشرة من عمري، حيث لم يكن لي طاقة على التعليم المدرسي، فلجأت إلى مهنة الفلافل، وهي في الحقيقة ليست مجرد طعام، إنها حكاية تنتقل من جيل إلى جيل، حيث أن أبنائي الثلاثة الآن يجيدون تحضيرها وبيعها للزبائن".

ويكاد يكون بين كل بائع فلافل وأخر، هناك بائع ثالث يفصلهما بضعة أمتار، ولابد أن يكون بينهم ذائع صيت وأخر حديث مهنة. حيث أن البعض امتهنها مؤخراً نتيجة فقدان مصدر الدخل بسبب الحرب على غزة (أكتوبر 2023- يناير 2025).   

ومع دخول رمضان، يضيف الباعة صنفاً جديداً للفلافل، حيث تباع محشوة بالبصل والسماق، فيما يعتمد قوامها الأصلي في مكوناته على الحمص والبقدونس والكزبرة والكمون والملح والثوم والفلفل والبهارات.    

ومع أن تلك المكونات قد تبدو في نظر الكثير أنها مكونات بسيطة، لكنها في ذروة الحرب على غزة واعتماد الاحتلال سياسة التجويع بحرمان سكان شمال غزة من الغذاء، كانت الفلافل وجبة دسمة في السعر والفائدة.

تقول جميلة أبو عبيد في العقد الخامس من العمر، "عندما كانت الموارد شحيحة والأوضاع الاقتصادية صعبة، كانت الفلافل تُشكل وجبةً أساسية بالنسبة لنا، وعلى الرغم من تكلفتها العالية، لكنها كانت أقل كلفة كثيرا من شراء حزمة أرغفة.

ونظراً لتحديات الواقع اضطرت السيدة أبو عبيد، لصناعة الوجبة بما توفر من مكونات، فاكتفت بخلط معلبات الحمص مع البازيلاء لتعطي العجينة لوناً أخضر في ظل انعدام البقدونس، مع الإبقاء على باق المكونات الأخرى، التي كانت تملك مخزوناً كافياً منه.

وأشارت إلى أن الفلافل كانت تعتبر وجبة إفطار أو عشاء، غير أنه وفي ظل تحدّيات الحرب وشح الأغذية، أضحت الفلافل طبقا رئيسياً على المائدة، "لقد كنا نطهوه على أنه غذاء رئيسي يوم الجمعة، وتلك في حينه كانت تبدو أكلة زخمة".

وقالت: "على الرغم من أن الفلافل كان رفيق حرب، لكننا لا زلنا نفضل أكله الآن رغم توقف عمليات القصف، فهو جزء من ثقافتنا الغذائية التي تربينا عليها، وتناقلت عبر الأجيال، صحيح أنه في رمضان تنتشر الفلافل المحشوة، لكن بالنسبة لنا تبقى الأقراص العادية ذات مذاق أفضل".

ويذهب البعض في تفسير استحواذ الفلافل كوجبة طعام على مائدة الغزيين، إلى أن تكلفتها الزهيدة ومكوناتها البسيطة جعلتها طعامًا للجميع، غنيًا بالطاقة والبروتين، وقادرًا على إشباع الجوعى.

أحمد عبد السلام في الخامس والثلاثين من عمره، قال "كنا نعتمد على الفلافل كوجبة رئيسية"، يتذكر معاناته مع افتقار الأسواق للأطعمة في رمضان الماضي قائلاً: "كنا نطحن الحمص في البيت، ونحضر الفلافل بأقل الإمكانيات. كانت وجبتنا على مائدتي السحور والإفطار، وفي أيام الحصار، كانت الفلافل هي المنقذ".

حتى في مخيمات اللجوء، حيث كانت الحياة قاسية والظروف صعبة، كانت الفلافل تُشكل مصدرًا للدخل، والقول لعبد السلام، مضيفاً: "كنا نبيع الفلافل في المخيمات بأسعار مقبولة وبهامش ربح بسيط.

"كان الناس يأتون إليّ ليس فقط لشراء سندوتشات الفلافل، ولكن ليشعروا بالألفة، فالفلافل كانت تذكرهم ببيوتهم التي نزحوا عنها قسراً، وتشعرهم بالقليل من الطمأنينة لاسيما حين كانت تثار حول موقد القلي حديث عن تهدئة واحتمال العودة للمسكن".

لكن الفلافل ليست فقط طعامًا للحرب، في أيام السلم والهدوء، تتحول إلى وجبة للفرح والاحتفال في أمسيات الأصدقاء ووجبات الإفطار الجماعية على شاطئ البحر. وكذلك في الأعراس، وحتى في الاستراحات العائلية، تكون الفلافل حاضرًا بقوة.

"لا تكتمل أي مناسبة دون الفلافل"، تقول سارة، وهي شابة في العشرينيات من عمرها. "في الجامعة، كنا نذهب مع الأصدقاء لتناول الفلافل بعد المحاضرات. كانت لحظات من المرح والضحك. الفلافل ليست مجرد طعام، إنها ذكريات طفولة بالنسبة لنا".

أمام هذه الشعبية الكبيرة التي تتمتع بها الكرات الذهبية، يتبادر سؤال حول السر الاقتصادي: لماذا تحافظ الفلافل على شعبيتها؟

من الناحية الاقتصادية، تعتبر الفلافل وجبةً مثاليةً للفقراء والأغنياء على حد سواء. "الفلافل هي مثالٌ على التوازن الاقتصادي"، يقول الباحث الاقتصادي أشرف إسماعيل، "مكوناتها بسيطة وغير مكلفة، لكنها غنية بالعناصر الغذائية. هذا يجعلها وجبةً مثاليةً في أي ظرف اقتصادي".

ويضيف الباحث إسماعيل: "في فترات الأزمات الاقتصادية، نلاحظ زيادة في الطلب على الفلافل، الناس يبحثون عن وجبات مشبعة وبأسعار معقولة، والفلافل تلبي هذه الحاجة، هذا هو سر بقائها طعامًا شعبيًا على مر السنين".

وأشار إلى أن العلاقة الحالة الاقتصادية والفلافل علاقة طردية، فكلما زادت نسبة الفقر والبطالة، كلما زاد الطلب على هذه السلعة الغذائية، على اعتبار أنها أقل السلع قيمة، وقدرة على سد الجوع.  

في مايو 2014 أصبح قرص الفلافل، مؤشراً لقياس التضخم والقدرة الشرائية في المنطقة العربية، وأعلن معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في حينه نتائج "مؤشر الفلافل"، والذي يبين أنه بعشرة دولارات يمكن شراء 17 وجبة فلافل من قطاع غزة، أيّ أقل من نصف دولار قيمة شطيرة الفلافل الواحدة؛ ما يعني أن شطيرة الفلافل في غزة كانت في حينه الأقل حظاً من حيث القيمة مقارنة ببلدان المنطقة العربية. واعتبرت تلك النتيجة في حينه انعكاس واضح على ضعف القوة الشرائية، فكيف الحال اليوم في ظل الحرب والحصار؟.

وبعيداً عن تعقيدات الواقع الاقتصادي، يرى البعض أن الفلافل هي جزءٌ من الهوية الفلسطينية، أكثر من مجرد طعام. "عندما أسافر إلى الخارج، أول شيء أبحث عنه هو الفلافل"، يقول محمد سليمان، وهو شاب يعيش في أوروبا.

يضيف سليمان، عبر اتصال الكتروني: "الفلافل تذكرني ببيتي، بوالدتي، بشوارع مدينتي، بطفولتي وحارتي هي ليست مجرد طعام إنها جزء من الذاكرة الحسية".

في النهاية، تبقى الفلافل أكثر الوجبات رمزية بالنسبة لسكان غزة، فهي قصة رفيق على موائد الطفولة والشباب وحتى في الكهولة.  وهكذا، تبقى الفلافل، بتواضعها وقيمتها، جزء من ذاكرة المطبخ الفلسطيني، ورمزًا لموروث لا يموت.