في مخيم البريج، وسط مدينة غزة، تفاجأ المواطن محمد عليان (55 عامًا) بأعمال تصليح واسعة لخطوط الكهرباء في منطقته، مما أثار فضوله حول مستقبل التيار الكهربائي في المخيم. إلا أن المفاجأة الأكبر كانت عندما اكتشف أن الكهرباء العائدة ليست من الشبكة العامة، بل من مولد خاص يفرض تسعيرة مرتفعة، حيث بلغ سعر الكيلوواط الواحد 20 شيكلًا.
يتذكر عليان كيف كان يعتمد قبل الحرب على مولد كهربائي لتغطية ساعات الفصل، حيث لم يكن السعر يتجاوز 3 شواكل للكيلوواط. اليوم، يجد نفسه أمام معضلة مالية، إذ إن الحد الأدنى للاشتراك الشهري في المولد الجديد يبلغ 200 شيكل، وهو مبلغ يفوق إمكانياته. "اضطررت إلى رفض طلب أولادي بالاشتراك"، يقول عليان بحسرة، مضيفًا: "قضينا عامًا ونصف بلا كهرباء، فلنتحمل قليلًا بعد، على أمل أن تنخفض الأسعار."
تعكس تجربة عليان أزمة أوسع يعاني منها سكان غزة، حيث تتزايد الاعتمادات على المولدات الخاصة وسط غياب حل جذري لأزمة الكهرباء، في ظل تضاعف الأعباء المالية على العائلات. فهل تحمل الأيام القادمة انفراجًا في هذه الأزمة، أم أن الأهالي سيواصلون التأقلم مع الواقع المفروض؟
ويغرق قطاع غزة في العتمة منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر 2023. لكن أزمة الكهرباء ليست جديدة بالنسبة للسكان، فقد بدأت منذ عام 2006 بعد قصف محطة توليد الكهرباء الوحيدة، ومنذ ذلك الحين يعاني القطاع من عجز مستمر في إنتاج الطاقة بنسبة تفوق 50%.
وفقًا لتقارير شركة الكهرباء، يحتاج قطاع غزة إلى حوالي 550 ميغاواط يوميًا في فصل الصيف، بينما تتراوح الحاجة في فصل الشتاء بين 650 و700 ميغاواط. ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة، دُمِرت محطة التوليد الرئيسية وجميع خطوط الكهرباء الإسرائيلية المغذية للقطاع؛ مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن غزة بالكامل.
ووفقًا لبيانات شركة الكهرباء، فقد دُمرت 70% من شبكات توزيع الكهرباء، بالإضافة إلى تدمير 80% من آليات الشركة و90% من مستودعاتها، كما سجلت الشركة خسائر أولية -قابلة للزيادة- بلغت 450 مليون دولار.
لتعويض هذا النقص في الطاقة، بدأ أصحاب المولدات التجارية في تشغيل مولدات تعمل بالوقود، لتغطية احتياجات السكان من الكهرباء في مناطق سكنية مختلفة، خاصة تلك التي ما زالت تتمتع ببنية تحتية جيدة نسبياً في ظلّ دمار هائل طال معظم المناطق قدرِّت خسائره بنحو 400 مليون دولار في البنى التحتية.
وعلى الرغم من الارتفاع الحادّ في أسعار الوقود، بدأ أصحاب هذه المولدات ببيع كيلو الكهرباء بأسعار تتراوح بين 20 30 شيكلا، ما أثار استياءً واسعًا بين المواطنين الذين اعتبروها أسعار جنونية، تفوق قدرتهم على شراء الخدمة، وبخاصة مع تضخم نسبتي الفقر والبطالة على نحو غير مسبوق.
بعد عامٍ ونصف من التوقف بسبب الحرب، أعاد عبد الرحمن أبو هويشل تشغيل مشروعه الخاص في مخيم البريج، وأصلح خطوط الكهرباء التابعة لمولده، إلا أنه سرعان ما واجه ردود فعل غاضبة من السكان بسبب ارتفاع الأسعار التي فرضها مقابل تزويدهم بالكهرباء.
أبو هويشل، الذي يُعدّ أحد أصحاب المولدات التجارية، يرى أن تسعيرته مبررة في ظل الارتفاع الكبير في تكاليف التشغيل. "أشتري السولار بأسعار تتراوح بين 25 و40 شيكلًا للتر الواحد، إلى جانب ارتفاع تكلفة الصيانة وندرة المعدات اللازمة بسبب إغلاق المعابر"، يوضح أبو هويشل، مشيرًا إلى أن هذه العوامل مجتمعة ترفع تكلفة إنتاج الكهرباء بشكل كبير.
لم تكن التحديات المالية التي يواجهها أبو هويشل بسيطة؛ فقد اضطر لدفع 32 ألف شيكل لشراء خمس بطاريات لتشغيل مولده، بواقع 8000 شيكل للبطارية الواحدة، وهي زيادة تتجاوز عشرة أضعاف سعرها قبل الحرب. كما أن صيانة المولد كلّفته 11 ألف شيكل، بعد أن كانت لا تتجاوز 1000 شيكل سابقًا.
رغم الانتقادات، يبدي أبو هويشل استعداده لتخفيض سعر الكهرباء في حال حصوله على دعم من شركة الكهرباء، سواء عبر توفير السولار مجانًا أو بيعه بأسعار مقبولة كما كان قبل الحرب، عندما لم يكن يتجاوز سعر اللتر 7 شيكل.
ارتفاع أسعار الكهرباء ليس المشكلة الوحيدة التي تؤرق سكان غزة، إذ طالت الزيادات مختلف جوانب الحياة، من الغذاء إلى المستلزمات الأساسية، مما يفاقم الأزمة الاقتصادية في القطاع ويجعل تكلفة المعيشة عبئًا متزايدًا على المواطنين.
تعاني ميسرة ناصر (43 عامًا) من الارتفاع الحاد في أسعار الكهرباء في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، حيث بلغ سعر الكيلوواط الواحد 30 شيكلًا، وهو مبلغ ترى أنه "يقتصر على الأغنياء"، فيما تجد الأسر الفقيرة والمتوسطة صعوبة في تحمل هذه التكاليف المتزايدة.
تساءلت ميسرة في سياق حديثها مع مراسلة "آخر قصة"عن دور الجهات الرسمية في كبح جماح الأسعار وحماية المواطنين من الاستغلال، إلا أن الردود الرسمية لم تقدم إجابات واضحة.
وفي مطلع رده، أوضح الناطق باسم وزارة الاقتصاد، عبد الفتاح أبو موسى، لـ"آخر قصة"، أن وزارته "ليست مسؤولة عن ضبط سعر الكهرباء"، محمّلًا سلطة الطاقة هذه المسؤولية.
من جهته، أكد المتحدث باسم شركة توزيع الكهرباء، محمد ثابت، أن المولدات التجارية تعمل كشركات ربحية مستقلة عن الشركة، وأن ارتفاع الأسعار يعود بشكل رئيسي إلى ارتفاع تكلفة السولار وصعوبة توفيره.
وبينما تُلقي الجهات المختلفة بالمسؤولية على بعضها البعض، لا يزال المواطنون يبحثون عن حلول طويلة الأمد، خاصة بعد الأضرار الكبيرة التي لحقت بقطاع الكهرباء في غزة والتي قُدّرت بحوالي 450 مليون دولار.
في هذا السياق، تحدث ثابت عن خطط لإدخال وحدات طاقة شمسية لتخفيف الأزمة، لكنه أشار إلى أن تنفيذ هذه المشاريع يعتمد على الدعم الخارجي والظروف السياسية.
من الناحية الاقتصادية، يرى المختص أحمد أبو قمر أن ارتفاع سعر الكهرباء مرتبط بمبدأ العرض والطلب. "كلما زاد المعروض من الوقود، انخفض سعره، والعكس صحيح".
وأوضح أبو قمر أن شح الوقود يجبر أصحاب المولدات على شرائه بأسعار مرتفعة، ما يؤدي إلى تحميل المستهلكين تكلفة إضافية. كما أشار في حديثه مع مراسلة "آخر قصة" إلى أن انقطاع الكهرباء أثّر على مختلف القطاعات الاقتصادية، مما دفع المواطنين إلى البحث عن بدائل مثل المولدات والطاقة الشمسية، مضيفًا أن توفير الوقود بكميات كافية سيساهم في خفض الأسعار والحد من التضخم.
وفي حين يحمّل المختص الاقتصادي وزارة الاقتصاد ولجان حماية المستهلك مسؤولية مراقبة أسعار الوقود والمولدات التجارية، يؤكد أن المشكلة الأساسية تكمن في نقص الإمدادات. وحتى يتم حل هذه الأزمة، سيبقى المواطنون في غزة عالقين بين ارتفاع الأسعار وغياب الحلول الفعالة، وسط تحديات اقتصادية متزايدة تضغط على الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع.
موضوعات ذات صلّة:
ثلاثة سيناريوهات اقتصادية تنتظر غزة
بورصة إيجار الشقق تشتعل وسط غياب الرقابة
غزة: امتلاك هاتف يحتاج إلى ثروة
غزة والحصار.. تجويع ممنهج وغلاء فاحش بفعل إسرائيلي (تقرير)
للمرة الأولى منذ بداية الحرب.. إنارة شوارع وسط مدينة خان يونس
كهرباء غزة