لم تتوقف الشابة الفلسطينية علا حليلو، عن البحث عن شقة سكنية للإيجار، بعدما عادت رفقة والدتها من مخيمات النزوح في المحافظة الوسطى من قطاع غزة، إلى مدينة غزة حيث بيت العائلة التي صار أنقاضاً.
ومنذ أُعلن عن وقف إطلاق النار في غزة نهاية يناير الماضي، وعاد النازحون من جنوب القطاع إلى شماله حيث مساكنهم التي نزحوا قسراً عنها. لم تتوقف محاولات علا بالبحث عن شقة ذات قيمة إيجار مناسب، حيث تشتكي من ارتفاع قيمة الإيجارات التي يطلبها مُلاك العقارات على نحو يعجز أصحاب الدخل المتوسط والضعيف على استئجارها.
تقول علا، والدهشة لا تفارق ملامحها: "خلال بحثي، وجدت منازل لا تستحق حتى أن تُسمى بيوت بسبب تهالكها، فهي مجرد جدران وأسقف بلا شبكة صرف صحي، أو أرضية، أو تجهيزات أساسية، ورغم ذلك كان الإيجار المطلوب يتراوح بين 400 و500 دولار، وهو قيمة لا يكاد يقبلها عقل".
وفي إحدى محاولاتها، وجدت الفتاة شقة في مبنى تعرّض للقصف بالكامل باستثناء الطابق الأرضي، الذي يضم غرفة وحمامًا ومطبخًا صغيرًا، لكن صاحب العقار طلب مبلغًا (600 دولار). وعن ذلك قالت: "لقد ذهلت خرجت من المكان وأنا في حالة صدمة، كيف أصبح إيجار المساكن بما في ذلك الهالك منها يحتاج إلى ثروة؟!".
وكانت تتراوح قيمة إيجار الشقق السكنية في قطاع غزة قبل اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، بين (150- 300 دولار)، فيما كانت قيمة إيجار الشقق المفروشة (500 $).
لكن ومع تدمير مئات الآلاف من الوحدات السكنية في قطاع غزة، بما يقدر بنسبة 88% من العمران، تشهد أسعار قطاع العقارات ارتفاعاً غير مسبوق، وبخاصة في ظل انعدام الرقابة الرسمية التي تحفظ للمستأجر حقه في عدم التعرض للاستغلال، وتضمن للمالك تحقيق عائد مناسب يتوافق مع الواقع الاقتصادي، بعيداً عن قاعدة العرض والطلب التي تعتبرها الجهات الرسمية أنها مرجعية هذه البورصة.
"علا" واحدة من آلاف المواطنين الذين فقدوا منازلهم، حيث تُشير تقديرات دولية إلى أن حجم الركام في غزة بلغ نحو 51 مليون طن، ويحتاج لسنوات لإزالته. فيما أكّد مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية أن أكثر من 1.8 مليون شخص يحتاجون إلى مأوى في غزة.
وأورد المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، بياناً أوضح فيه أنّ الاحتلال الإسرائيلي دمّر (161,600) وحدة سكنية كليًّا، وخلّف (82,000) وحدة سكنية غير صالحة للسكن كما دمر (194,000) وحدة سكنية تدميرًا جزئيًا.
حقوقيون فلسطينيون اعدوا، التدمير المتعمد والممنهج للمباني السكنية في غزة، مخالف للقانون الدولي، وذلك وفقًا المادة 25 من لائحة لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية، وكذلك المادة الثامنة وتحديدًا الفقرة 13 من ميثاق روما التي تمنع المساس بالممتلكات المدنية، وتعتبر تدمير المباني شكلًا من أشكال جرائم الحرب.
وإذا كان الحق في المسكن قد سحقته الآليات العسكرية وتبعثر وسط غبار الحرب، فإن الحق في حماية المستهلك أمر واجب بموجب القانون الفلسطيني، وربما هذا ما أثار حفيظة المواطنين الذين فجروا أسئلة كثيرة حول دور الجهات المختصة في تنظيم سوق الإيجارات.
بحثاً وراء الإجابة التقت مراسلة "آخر قصة" مدير وزارة الاقتصاد محمد بربخ، والذي بدوره أقر بعدم وجود أي دور فاعل تجاه الرقابة على سوق إيجار العقارات.
وقال بربخ: "لا توجد متابعة من قبل الوزارة لهذا الملف، ولا يمكنها فرض هامش أسعار معينة، لأن القطاع العقاري يُعتبر استثماريًا بحتًا".
وأشار إلى أن عمل الوزارة يقتصر حاليًا على متابعة الأسواق، وضمان جودة وصلاحية المنتجات الغذائية، بالإضافة إلى لجان مختصة بمراقبة المخابز وإنتاج الخبز، وأخرى لمراقبة توزيع الغاز، فحسب.
ويعجز هذا الارتفاع الحاصل في سوق الإيجارات، الآلاف من الفئات الهشة وبخاصة النساء اللواتي يُعلن أسراً، والأرامل وذوي الإعاقة وكبار السن من معدومي الدخل، عن استئجار مسكن، ويضطرهم لإقامة خيام بالية فوق أنقاض مساكنهم المدمرة.
ويفسر المختص في الشأن الاقتصادي رائد حلس، الارتفاع الجنوني في أسعار الإيجارات، بأنه عائد إلى النقص الحاد في الوحدات السكنية بعد الدمار الكبير الذي لحق بالبنية التحتية. وأشار إلى أن زيادة الطلب على الشقق، في ظلّ غياب رؤية واضحة لإعادة الإعمار والقيود المفروضة على دخول مواد البناء، أسهمت في ارتفاع الأسعار بشكل كبير.
أما عن تدّاعيات ذلك على المواطن، فأوضح حلس أن ارتفاع الإيجارات يستنزف جزءًا كبيرًا من دخل الأسر، مما ينعكس بالسلب على قدرتهم الشرائية للضروريات الأخرى، مثل الإنفاق على الغذاء والصحة والتعليم. كما يؤدي ذلك إلى ركود اقتصادي في عدة قطاعات، وزيادة معدلات الفقر التي وصلت إلى 100% وفق إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
ومن الواضح أن تلك لم تكن قراءة بحثية استشرافية، لأنه واقع تجسد تماماً مع المواطنة سها عبد الله، التي كانت تستأجر شقة في حي الرمال وسط مدينة غزة لسنوات مضت، ثم وجدت نفسها الآن وفجأة دون مأوى، ودون قدرة على توفير إيواء لأسرتها.
تروي سها لـمراسلة "آخر قصة"، حكايتها والحزن في عينيها: "فوجئنا باتصال من مالك الشقة يخبرنا أنه بحاجة إليها، لم نعرف ماذا نفعل وأين نذهب. اضطررنا لإخلائها ووضعنا أغراضنا مؤقتًا في علّية المبنى بمساعدة حارس العمارة، على أمل العثور على بديل قريبًا".
قضت سها وعائلتها أيامًا طويلة في البحث عن شقة جديدة، لكن الأسعار كانت مرتفعة بشكل خيالي. لم تمضِ مدة طويلة حتى اكتشفت أن المالك لم يكن ينوي الإقامة في الشقة كما أدعى، بل طمعاً في إحلال مستأجر أخر بقيمة إيجار أعلى.
تردف السيدة: "حاولنا التفاهم مع مالك الشقة وعرضنا دفع زيادة معقولة، لكنه طلب 600 دولار، بينما كنا ندفع سابقًا 200 فقط! شعرنا بصدمة كبيرة، وبعد وساطات مع مجلس العمارة، اتفقنا على 450 دولارًا".
وقد بدا هذا الخيار أقل سوءًا من المبيت في الشارع، رغم أنه يستنزف دخل أسرة "سها" ويحدّ من إنفاقها على احتياجات أساسية أخرى كالطعام والشراب والعلاج، وهذه السلع أيضاً تشهد ارتفاعا في السعر، الأمر الذي يزيد الطين بلةً ويجعل هذه الأسرة تعيش على الفتات.
وبطبيعة الحال، فأن الضغط المتزايد على الخدمات الاجتماعية في قطاع غزة سيؤدي إلى ارتفاع الطلب على المساعدات الإنسانية والإغاثية، وفق تقدير المختص الاقتصادي "حلس".
وحذر حلس من أن عدم اتخاذ خطوات فعلية لتوفير مساكن جديدة، وتسريع عمليات إعادة الإعمار، وتخفيف القيود على دخول مواد البناء، سيؤدي حتماً إلى استمرار ارتفاع أسعار العقارات والإيجارات، مما سيزيد من معاناة السكان المنهكين ماليًا أكثر فأكثر.
وفي الوقت الذي ما زالت فيه آلاف العائلات تعيش في العراء، لا توجد حتى الآن أفق واضح لمستقبل هذه العائلات، أو حلول مؤقتة كتوفير خيام أو كرفانات (بيوت متنقلة) لإيواء المتضررين، مما يزيد من حدة الأزمة ويترك المواطنين المطحونين بلا خيارات سوى التكيف مع الواقع المرير.
مواضيع ذات صلة:
آلاف الحالات في غزة تفتقر إلى المسكن الثابت
ضيق السكن يُغيِّب حق الأفراد في الاستقلالية
حياة على الحافة: الإقامة في بيوت مهددة بالانهيار
إعادة إعمار قطاع غزة بعد الحرب: معركة أخرى مع التحديات والتكاليف
تكلفة المعيشة في غزة بعد الحرب الأخيرة… الوضع يزداد سوءاً
أسعار الإيجار في غزة