انعدام استقرار الموتى: المرقد الأخير غير متاح    

انعدام استقرار الموتى: المرقد الأخير غير متاح    

لم يكن المواطن الفلسطيني عبد المالك أبو غالي، من سكان معسكر جباليا، يتوقع أن يجد نفسه مضطرًا لدفن ثلاثة من أبنائه في مكانٍ عشوائي وسط سوق مشروع بيت لاهيا المدمّر، بعد أن فقدهم خلال إحدى الغارات الجوية، فيما فرّ هو من وقع القصف العنيف مرارًا وتكرارًا خلال اجتياح جيش الاحتلال لشمال قطاع غزة بريًّا خلال الحرب الإسرائيلية التي استمرت 15 شهراً.

وسط مشاهد الدمار والأنقاض المتراكمة، برزت مأساة جديدة في قطاع غزة، إذ اضطرت العديد من العائلات كعائلة "أبو غالي" إلى دفن أفرادها الذين قتلوا خلال الحرب في مقابر عشوائية، بعدما أصبح الوصول للمقابر الرسمية مستحيلاً وسط الاجتياحات العسكرية للأحياء في ذروة منع التجوال.

في ليلة التاسع والعشرين من أكتوبر 2024، وبينما كان الجميع مجتمعين في غرفة واحدة خوفًا من القصف العنيف، سقط صاروخ فجأة وحوّل المكان إلى ركام. صرخ الأب عبد المالك أبو غالي مستغيثًا، لكنه وجد نفسه وحيدًا يرفع الأنقاض عن عائلته. 

استطاع إنقاذ زوجته وأطفاله الثلاثة "زين وزينة ونعمة"، لكنه حمل طفلته تالا البالغة ثلاث سنوات إلى المستشفى على أمل إنقاذها، لكنها فارقت الحياة بين يديه. عاد بعد ذلك ليجد ابنيه الآخرين، رهف (14 عامًا) ومحمد (16 عامًا)، قد فارقا الحياة خنقًا تحت الأنقاض، فقام بدفنهم في السوق بقطعٍ من القماش وأغطية المستشفى لعدم توفر الأكفان.

يقول أبو غالي بصوتٍ متهدج: "أبنائي كانوا كل حياتي، زهرة شبابي ضاعت في تربيتهم، كان حلمي أن أراهم يكبرون ويحققون أحلامهم، لكن الحرب سرقتهم مني. دفنتهم بيدي دون أن أتمكن حتى من وداعهم كما يليق".

بعد وقف إطلاق النار، سارع أبو غالي للبحث عن قبور أبنائه وسط الدمار الناجم عن تجريف السوق من قبل الاحتلال، فعثر عليها بصعوبة وأعاد دفنهم بإمكاناتٍ بسيطة، فيما ينتظر عودة والديه النازحين جنوب قطاع غزة لإقامة مراسم دفن لائقة لهم في مقبرة بيت لاهيا أو جباليا.

وخلال الاجتياح البري الإسرائيلي الأخير لشمال القطاع (أكتوبر 2024- يناير2025)، عجزت طواقم الإسعاف والدفاع المدني عن العمل بانتشال جثامين الشهداء، بعد استهداف الاحتلال للمسعفين واعتقال بعضهم؛ ما أُجبر الأهالي على دفن الشهداء في أماكن مؤقتة مثل ساحات المستشفيات والشوارع والطرقات وحتى داخل المنازل.

وفي ظلّ هذه الظروف، أصدرت أمانة مجلس الاجتهاد الفقهي بوزارة الأوقاف بيانًا يوضح حكم نقل جثامين الشهداء من مناطق ليست مخصصةً للدفن، أو من مقابر اختلطت فيها العظام بالركام والحجارة، أو بقصد تقريب المسافة، ودفنها في المقابر العائلية والقريبة من أماكن السكن.

وذكرت الأمانة في بيانها أن الشهيد إذا دفن في ساحة مستشفى، أو طريق، أو بيت، أو في أرض أَذِنَ صاحبها بالدفن فيها مؤقتًا، بسبب الخوف المتحقق من الدفن في المقبرة، فيجوز نقله إلى مقابر المسلمين مع الالتزام بالضوابط الشرعية في عملية النقل وأن يتم النقل بإشراف الجهات الشرعية والصحية المختصة؛ لضمان تحقق النقل وفق الضوابط الشرعية، وتوفير السلامة الصحية.

وإذا كان عبد المالك أبو غالي، قد عثر على قبور أبناءه المؤقتة، فإن العديد من الأسر لم تعثر على قبور أفرادها الذين قتلوا ودفنوا مؤقتاً في مناطقة آمنة نسبياً، حيث إن تكرار العمليات العسكرية واجتياح الأماكن في أكثر من مرة قد سحق تلك القبول وبعثرت الرفات في الطرقات.

ومن الناحية الفقهية، يؤكد أُستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم وعميد المعاهد الأزهرية السابق الدكتور عماد حمتو، أن الدفن اللائق للشهداء واجب شرعي.

وقال حمتو في حديثه لمراسلة "آخر قصة"،  "الشهيد يكرم بدفنه في مقابر المسلمين، وعملية النقل واجبة عندما يكون مكان الدفن غير مناسب، شريطة الالتزام بالضوابط الشرعية".

سامي الهسي، فقد ابنيه التوأم أثناء نزوحهم إلى مقر منظمة UNDB في حي النصر غرب مدينة غزة، في 16 ديسمبر 2023. يتذكر بألمٍ شديد كيف انطلق أبنيه محمود وأحمد لإنقاذ ثلاثة نازحين تعرضوا للاستهداف أثناء تعبئتهم المياه، لكنهم قُتلوا بصواريخ الاحتلال. 

لم يكن أمام العائلة سوى دفن الشقيقين سريعًا بملابسهم في ساحة المقر، حيث رقدا هناك ستة أشهر. وفي الأسبوع الماضي فقط، وبعد انتظار طويل، تمكنت العائلة من إعادة تكفينهم ودفنهم في مقبرة الشيخ رضوان غرب المدينة، حيث وُري جثماناهما الثرى في قبر جمعهما مع جدتهما المتوفاة منذ 20 عامًا، بسبب عدم وجود قبور شاغرة داخل المقبرة.

ومن الناحية النفسية، تترك عمليات الدفن العشوائي أثرًا عميقًا على العائلات حيث تجعل الألم النفسي يزداد قسوة كلما اعيد نبش القبور وإعادة دفن الموتى. ووفقًا للمختصة النفسية والاجتماعية جيهان حلس، فإن هذه القضية تعزز مشاعر الصدمة وعدم القدرة على التقبل والحداد الطبيعي. 

تقول حلس في حديثها لمراسلة "آخر قصة"، "إن عدم توفر مكان آمن ودائم للدفن يضاعف الألم النفسي، إذ يشعر الأهالي بأن أحبائهم ما زالوا بلا مأوى حتى بعد استشهادهم. هذا الأمر يزيد من القلق والاكتئاب، خاصة لدى الأطفال الذين فقدوا آباءهم أو أشقاءهم".

وتضيف أن الجانب الاجتماعي للقضية مهم أيضًا، حيث يعتبر نقل الشهداء إلى مقابر رسمية جزءًا من عملية التكيف مع الفقدان، وهو ما يساعد العائلات على تجاوز المحنة تدريجيًا. 

كما أنّ إقامة جنازات مناسبة وتوفير قبور دائمة يمكن أن يكون عاملًا مساعدًا في تقديم بعض الراحة النفسية للأهالي، بحسب حلس وذلك بعد شهور من الفوضى والدمار عمّت القطاع خلال خمسة عشر شهرًا من الحرب.

في شارع الجلاء غربي مدينة غزة، بقي المسن عدنان حلس (70 عامًا) وحده في منزله بعد نزوح أسرته إلى دير البلح، وفي 31 مايو 2024، قُصف منزل جيرانه، واستشهد على الفور. 

في تلك الأثناء، دفن الجيران الرجل في أرضٍ قريبة لحين عودة عائلته، لكن حتى اللحظة لم يتمكنوا من إيجاد مكان له في المقابر المكتظة، ولا يزالون ينتظرون انسحاب الجيش الإسرائيلي، من أجل نقل جثمانه إلى "المقبرة الشرقية"، شرق مدينة غزة.

وفقًا لبيان المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، دمّر الاحتلال 19 مقبرة بشكل كلي أو جزئي من أصل 60 مقبرة في القطاع، كما قام بسرقة 2,300 جثمان من مقابر متعددة. ولم يكتفِ بذلك؛ بل أنشأ سبع مقابر جماعية داخل المستشفيات، في انتهاك صارخ لكل القوانين الدولية والإنسانية.

بدوره، يؤكد المحامي يحيى محارب، المختص في القانون الدولي، أن تدمير المقابر ونقل الجثامين بالقوة يمثل انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف، التي تلزم الاحتلال بتوفير الحماية والاحترام لجثامين الضحايا المدنيين. 

ويقول محارب: "سرقة الجثامين وإنشاء مقابر جماعية داخل المستشفيات هو جريمة حرب يجب توثيقها وملاحقة المسؤولين عنها قانونيًا".

هذه الأرقام المفزعة تعكس فداحة الواقع الإنساني والنفسي الصعب الذي تعانيه الأسر التي عانت ويلات الفقد في قطاع غزة، حيث لا تزال جثث الكثير منهم مفقودة، فيما يعيق ضعف الإمكانات استخراج الجثث من تحت الأنقاض ونقلها إلى مثواها الأخير.

 

مواضيع ذات صلّة:

دفنوا بعشوائية.. الغزيون يواجهون أزمة قبور للشهداء والمتوفين

غزة: ضيق المساحات يصعب عمليات نقل جثث الشهداء من الطرقات والمرافق العامة

نبش المقابر وسلب جثامين الشهداء.. جريمة إسرائيلية متكررة في غزة

الأورومتوسطي يوثق أبرز المقابر الجماعية العشوائية في غزة في ظل استمرار الإبادة الجماعية