غزة: أسعار المواصلات تُعلّق عودة نازحين

غزة: أسعار المواصلات تُعلّق عودة نازحين

مر أسبوعان على إعلان وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ولا يزال يمكث المسن حسن عبد العال في خيمته المهترئة الواقعة في "المواصي" جنوب غرب محافظة خانيونس، غير قادر على العودة إلى منزله في حي الصبرة وسط مدينة غزة.

 يقول عبد العال، بتنهيدة يملؤها الحزن والشوق: "نفسي أرجع على بيتي، لكن صحتي لا تساعدني على المشي لمسافات طويلة والمواصلات مرتفعة الثمن، ووضعي المادي لا يسمح بدفع قيمة الأجرة التي تزيد عن ألفي شيكل (600$).

يعاني عبد العال من وضع مادي صعب، وبالكادّ يستطيع توفير الاحتياجات الأساسية لعائلته، لاسيما أن النزوح المتكرر أتى على ما تبقى له من مدخرات، وينتظر بفارغ الصبر انخفاض أسعار وسائل النقل ليتمكن من العودة لمنزله مع زوجته المريضة  والتي قال إنها تُعاني عذابات الحياة داخل الخيمة.

وسمح الاحتلال الإسرائيلي للنازحين جنوب قطاع غزة والذين قُدِّر عددهم في مختلف محافظات القطاع، بحسب بيان للمكتب الإعلامي الحكومي، من 1.9 مليون إلى 2 مليون نازح، بالعودة إلى مناطقهم السكنية شمال القطاع يوم السابع والعشرين من يناير بعد مرور أسبوع على سريان اتفاق التهدئة بين الأطراف المتنازعة. 

وذلك بالعودة إما مشيًا عبر شارع الرشيد أو بالمركبات عبر شارع صلاح الدين، فيما بلغت تكاليف النقل للشاحنات نحو ألفي دولار في ظلّ استمرار ارتفاع أسعار المحروقات، وهي تكلفة باهظة جدًا على الأسر التي عانت مرارة التشرّد والنزوح منذ 15 شهراً.

فادية أبو دلال، (29 عامًا) نازحة من غزة إلى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وحامل في شهرها التاسع، وضعها الصحي لا يسمح لها بالإجهاد وقطع مسافات طويلة سيرا على الأقدام. 

تقول أبو دلال لمراسلة "آخر قصة": "لا أفكر في العودة لمنزلي حاليًا، فالخيمة أفضل بكثير من البيت المُلوث بفعل الدمار والضرر البليغ فيه، كما أن المواصلات عالية جدًا، زوجي حاول التواصل مع أحد السائقين فطلب منه مبلغًا ماليًا يقدر بـ ٢٥٠٠ شيكل، وهو ما يفوق قدرتنا المادية كثيرًا".

تزداد أشواق أبو دلال لرؤية شوارع غزة بعد غياب قسري عنها ،فقد نزحت منذ الأسبوع الأول للحرب الإسرائيلية التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023؛ لكنّها تنتظر أن تضع مولودتها أولًا، ومن ثم تتحسن الظروف الصحية، والبيئية والمعيشية أيضا في مدينة غزة التي تعاني من ضعف شديد في البنى التحتية وتفتقر لشبكات المياه في معظم المناطق، إضافة إلى أملها في انخفاض تكاليف وسائل النقل من وسط القطاع إلى شماله مع مرور الوقت، حتى تتمكن من العودة إلى مسكنها.

وقدّر متخصصون محليون الدمار الذي طال مدينة غزة وحدها بنسبة 80%، فيما كانت المدينة يقارب تعداد سكانها 600 ألف نسمة -قبل الحرب- وقد تضررت بفعل الحرب ثلاثة أرباع بنيتها التحتية. 

ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، فإنّ كمية الأنقاض في القطاع بلغت نحو 37 مليون طن، كما أن أكثر من 70% من إجمالي المساكن في غزة تضررت أو دمرت، فيما دمر الاحتلال الإسرائيلي القطاعين التعليمي والصحي بشكل شبه كامل.

تنتظر راوية فهمي، ذات الإعاقة الحركية، عودتها إلى حي الشجاعية شرق القطاع؛ لكنّها تواجه عراقيل عديدة، أولها المواصلات غالية الثمن فيما هي تعاني وضعًا ماديًا سيئًا أما ثانيها وعورة الطريق وصعوبتها في حال قررت العودة على كرسيها المتحرك.

راوية واحدة من آلاف يعانون ذات الأوضاع الصحية، ففي بيانٍ أصدره مركز الميزان لحقوق الإنسان، أشار إلى أنَّ الإعاقة الحركية هي الأكثر انتشاراً بين الإعاقات في قطاع غزة بواقع (53.67%)، فيما تسببت الهجمات الإسرائيلية في إعاقة (20,000) شخص، من بينهم (5,000) تعرضوا لإعاقات دائمة.

تعيش راوية في خيمة غير مؤهلة لحالتها الصحية في دير البلح، وتصف المخيم الذي تقطنه بغير الصالح للعيش الآدمي، إذ تضطر للبقاء فيه رغم صعوبة الحياة داخله. وتلوح بيديها إلى أرض المخيم، التي كانت تعج بالنازحين لكنها الآن شبه فارغة، قائلة: "الجميع ذهب إلى منطقة سكنهم إلا أنا وأعداد قليلة وضعها المادي يشبه وضعي."

وفي ظلّ هذه الظروف تناشد فهمي أن تتكفل جهة حكومية أو مبادرون فرديون وفاعلو خيرا بتغطية تكاليف وسائل النقل عن النازحين الذين لم يتمكنوا من العودة إلى بيوتهم جرّاء تكلفة وسائل النقل الباهظة.

تؤكد أروى أحمد، أخصائية الصحة النفسية، أن استمرار نزوح العائلات القسري بعد انتهاء الحرب ضاعف من الأعباء النفسية على العائلات، خاصة في ظلّ عدم قدرتهم على العودة إلى ديارهم بسبب الارتفاع الحاد في أسعار السولار ووسائل النقل. 

وتضيف الاخصائية أحمد: "النازحون يجدون أنفسهم محاصرين في المخيمات رغم انتهاء القتال لذلك هم معرضون للمعاناة من مشاعر الإحباط وفقدان الأمل، حيث يتملكهم الشعور بالعجز وقلة الحيلة أمام الأوضاع الاقتصادية الصعبة"، وترى أن الأمر قد يؤدي إلى تفاقم اضطرابات القلق والاكتئاب، ويزيد من مستويات التوتر النفسي لديهم، خاصّة مع غياب أفق واضح لتحسن الأوضاع في ظلّ استمرار ارتفاع الأسعار.

وحذرت المختصة النفسية من أن عدم معالجة هذه الضغوط قد يسهم في تدهور الصحة النفسية لدى النازحين العالقين داخل الخيام، ما قد يؤدي إلى مشكلات اجتماعية أوسع مثل تصاعد التوترات الأسرية وارتفاع معدلات العنف داخل المخيمات.

الوضع ذاته ما زال يتشاركه آلاف النازحين الذين لم يعودوا إلى بيوتهم بعد، ومنهم الستينية لمياء لافي، التي اضطرت للبقاء في خيمتها رغم تمكن أعداد كبيرة من النازحين حولها من العودة إلى أماكن سكناهم. 

تقول لـ "آخر قصة": "أنا أرملة كبيرة في السن، والمشي مرهق جدًا بالنسبة لي، كما أنّ المواصلات غالية، كيف سأعود؟ سأظل في المخيم إلى أن تتغير الظروف".

وتعتاش المسنة لمياء على المساعدات الإنسانية، حالها حال مئات الآلاف من سكان قطاع غزة، ففي ظلّ الظروف الاقتصادية الراهنة في القطاع، يواجه السكان تحدّيات غير مسبوقة تؤثر بشكل كبير على حياتهم اليومية. 

ووفقًا لتقرير مشترك صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وسلطة النقد الفلسطينية، شهد قطاع غزة انكماشًا حادًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تجاوزت 82% مع نهاية عام 2024، مما أدى إلى ارتفاع معدل البطالة إلى 80%، وهو مستوى غير مسبوق في تاريخ القطاع.

بالإضافة إلى ذلك، أدى الحصار المستمر والقيود المفروضة على المعابر إلى ارتفاع حاد في أسعار السولار والوقود، مما أثر بالسلب على تكاليف المواصلات والنقل. هذا الارتفاع في الأسعار يزيد من الأعباء المالية على المواطنين، خاصة في ظل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة.

من جانبه، أشار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) إلى أن إعادة قطاع غزة إلى الوضع الاقتصادي الذي كان عليه قبل الحرب قد تستغرق عقودًا من الزمن، ما لم يتم تنفيذ برنامج إنعاش مدعوم وممول من قبل المجتمع الدولي.

في هذا السياق، يؤكد المختص الاقتصادي محمد أبو جياب، أنّ "الارتفاع الحادّ في أسعار السولار والوقود يؤدي إلى زيادة تكاليف النقل والإنتاج، مما ينعكس بالسلب على أسعار السلع والخدمات الأساسية. 

ويقول أبو جياب لـ "آخر قصة": "هذا الوضع يفاقم من معاناة الأسر في غزة، خاصة مع ارتفاع معدلات البطالة والفقر إلى مستويات غير مسبوقة، كما أنّ استمرار هذه الظروف دون تدخلات فعالة سيؤدي إلى تدهور أكبر في الأوضاع المعيشية والاقتصادية للسكان".

نتيجة لذلك، يدعو المختص الاقتصادي إلى تضافر الجهود المحلية والدولية لتقديم الدعم اللازم لقطاع غزة، سواء من خلال توفير المساعدات الإنسانية العاجلة أو من خلال تنفيذ مشاريع تنموية تسهم في إعادة بناء الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة، بهدف التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية والإنسانية التي يواجهها السكان.

وتتطلب هذه التحديات استجابة سريعة وشاملة من قبل الجهات المعنية، لضمان تحسين الظروف المعيشية والاقتصادية لسكان قطاع غزة في المستقبل القريب. مع العلم أنه تغيب الجهود الرسمية تماماً أمام هذه المعاناة حيث لا يوجد أي من التدخلات الحكومية لإعادة النازحين العاجزين عن ذلك بفعل قلة ذات اليد.

ووجهت انتقادات حادة عبر منصات التواصل الاجتماعي للجهات المسؤولة بما في ذلك الأحزاب والفصائل لعدم توفير أي من وسائل النقل المجاني للفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة بما في ذلك النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة، مما يجعلها عاجزة عن مواجهة أبسط الأعباء الناجمة عن الحرب.

وعلى الرغم من سماح الاحتلال الإسرائيلي للنازحين في قطاع غزة بالعودة إلى أماكن سكناهم ضمن شروطه وتقييداته؛ إلا أنّ عودة الكثير ما تزال مرهونة بانخفاض أسعار وسائل النقل، فهل يتحقق هذا الحلم قريبًا؟

 

مواضيع ذات صلّة:

نساء خيام غزة: معاناة تحت وطأة الحرب والبرد

صدمة اليوم التالي للعودة: لا مساكن ولا ممتلكات

العائدون إلى شمال غزة: مستقبل غامض بين الأنقاض