صباح السابع والعشرين من يناير 2025 بداية الدخول في طريق العودة نحو الشمال، حلماً كان بعد رحلات الشقاء في النزوح وترويض النجاة وجذبها. أقف أمام الشباك الشمالي في بيت النزوح بدير البلح، أحمل بداخلي شعوراً مختلطاً أبحث عن شكل الصورة التي تبدو وصفاً جيداً للمشهد، لكنّها البداية؛ بداية التردد ذاتها التي تُعيد أمامي الصورة لسيدة تقف بباب غرفة في بيتٍ بمدينة غزة في نهاية أكتوبر 2023 تسأل:
إلى أين؟!
صوت آخر يجيب: حيث قليلاً من النجاة!
يسأل صوت آخر: وهل تحدث هناك؟!
يجيب صوت: الحرب تقتل كل ما هو حيّ شمالاً وجنوباً!
اتصلت السيدة الصديقة: في بيتي!
سألتْ: وماذا عن بيتي؟!
جاء الجواب على شكل صورة عن البيت الذي صار حطاماً لا تقوى الذكريات على الخروج ناجية منه! تمسمرت مكاني مثل مسمار عاجز على الدخول رغم الطرق الكثير على رأسه، أجوب بذاكرتي عن لحظة تمنعني أن أخرج من المدينة، من البيت الكبير.
اتصال مُلِّح: ماذا تفعلين حتى هذه اللحظة، سيقتلون كل مَن سيبقى هنا!
اخرجي!
وجوه تقف أمامي: لا، بل ابقي، ما الذي سيحدث؟
انفجار كبير جاء على هيئة إجابة أخرج الأضلاع من مكانها وأعادها مرتجفة.
لا شيء، سيحدث أكثر من الموت.
اركضي، الصوت يُلّح عليّ أكثر.
أسأل: إلى أين؟!
الأسبوع الأخير من أكتوبر لعام 2023 هو اللحظة التي وقف بها الوقت هناك عند جسد سيدة تصارع السؤال والإجابة، والحرب لا تكترث بها! الأصوات جميعها تتقافز في ذاكرة الخوف والترقب والاستعداد، منذ تلك اللحظة وأنا أبحث عن توصيف شكل الذنب الذي سأقدمه للمدينة حين أعود أهو هاربة،، تنجو! أم خائفة،، تهرب!
هل يعيب الخوف والهرب إنساناً؟! يقفز بداخلي استنكاراً: إنساناً! مَن ذا الذي يرى فينا إنسان يستحق النجاة، بينما الحرب تسحق كل شيء من حولي! وأنا لا أريد أكثر من مكان أضع جسدي به!
أمضيت الليلة الأخيرة في البيت الكبير (المدينة) بمركز إيواء أنكرت على جسدي إنسانيته وخفت عليه وفي الصباح حملته ومعي حقائبي وركبت السيارة، وتركت روحي هناك على حافة آخر ممر للعين تبصر المدينة غزة.
وظلّ جسدي معي أعامله معاملة المؤتمن على شيء عليّ أن أعيده إلى روحه هناك.
يوم السابع والعشرين من يناير 2025 بداية الإعلان للسماح بإعادة الجسد إلى الروح، أو نفخ الروح بجسد منهك من ملاحقة النجاة من البتر والفناء في أبعد ما يكون عن البيت.
تتصارع الأصوات بداخلي، الأصوات ذاتها مترددة بذات التردد السابق
إلى أين؟!
لا بيت يقف على حيله!
صوت من القصيدة يأتي:
"أريد أن أبكي"
لكن البكاء لا يحدث!
البكاء قد يأتي على هيئة سلوك غير مفهوم، كأن تسأل وتسأل ولا تحضر الإجابات، أو تمنتع الإجابات.
ما زلت أقف بالشباك الشمالي من بيت النزوح بدير البلح، آخر محطات النزوح بعد خانيونس البداية، ورفح تلك الحالة التي تصلح لأن تكون صورة موازية لصورة صراع الأصوات في المحطة من قصيدة "لا شيء يعجبني"
الأصوات متتابعة: انتظري!
تحركي!
لقد صار الجميع هناك، لقد وصل أحدهم، ووصل آخر. المشي ليس سهلاً، الطريق أشبه بالمشي عبر درب الآلام. حالة من العبث برأسي وجسدي معي والروح تبدو وكأنها تلوح بلونها الرمادي. أيخون الجسد روحاً انتظرت؟!
امتثلت للحالة التي قالت فيها القصيدة:
"أنزلني هنا"
حزمت الأمتعة وبعض ما يلزم للطريق سيراً إنها الحالة التي كانت تنتابني سابقاً قبل الحرب كان أصدقائي يتندرون بالسخرية على حقيبتي لدي شعور سابق بأن هناك ما ينقصني فتجد في الحقيبة مسكن لا يلزم لحظتها لكنه سيلزم عما قليل بدأت أحمل من حقيبة النزوح لا أعرف لم أحمل علبة قهوة مثلاً، لكنني لم أحمل الماء.
يذكرني الأمر بشيء من السخرية حين يأتي أمر الأب بأننا ذاهبون في زيارة إلى بيت العائلة فلا تعرف ما الذي يلزم؟ المهم أن الأمر حدث!
خرجت من البيت غرب دير البلح نحو شارع الرشيد، كنت محظوظة بيت النزوح أقرب ما يكون إلى خط المسير كما قلت لكل الأصدقاء "من يسبق هو الذي يخرج قبل الجميع وأنا أقربكم للشارع".
لكنني خائفة منذ أيام قبل هذا قلت للجميع الخوف الذي بدا يتملكني أشد من الخوف أيام الحرب، لكني تجاهلته على أية حال.
فالأصوات مجتمعة صارت معي، الجميع أمامي يحمل جسده والحقائب ويمشي نحو الشمال. وأنا الواقفة بشارع الرشيد وحدي هل أبقى كي أبكي وحدي! بل، تعبت من حمل جسدي وحدي وأريد لجسدي روحه، كي لا أصاب بذنب الخيانة مرتين!
البكاء مع الجماعة رحمة، رحمة كبيرة.. فالطريق الذي بدأ من دير البلح كان شاقاً تتجاوز فيه آلامك بينما تمشي معك كل فلسطين بتكوينها الراسخ وتنوع لهجاتها العائدة إلى شمال غزة، جرب أن تتخيل الآن أنك تسير مع صوت من الشجاعية، وصوت اللاجئ من يافا والعائد إلى مخيم الشاطئ ومخيم جباليا، صوت بيت حانون، بيت لاهيا تقول السيدة:
غير أبوس ترابها بيت لاهيا، اشتقتلها!
الفلاحون الذين يقولون: هلقيت شفناها. الفلاحون الذين اقتلعت أجساد أجدادهم من القرى منذ عام 1948، وتناسلت العائلة في شمال غزة.
كان هذا بداية الامتثال للحقيقة التي تقول:
كل فلسطين تسكن بشمال غزة، وها هي تعود؟!
هي بمثابة اختبار لشعور حلم العودة الأكبر الذي تناقلته الأجيال الفلسطينية كلها تجتمع الآن بشارع الرشيد الواصل بين شمال غزة وجنوبها.
استسلمت لصوت الأقدام التي تسير معي، وبدأت أقلد وجهتهم وأتابع أنفاسي مع أنفاسهم اللاهثة وعيوننا تشرأب نحو وجهة إعادة الجسد إلى روحه التي تعبت، التعب يحاصر الجسد، لكنه يمشي يمشي أظن أننا جميعاً أطفأنا حواسنا عن كل الرماد الذي بدا يظهر الآن إذ خرجنا جميعاً من شارع طيني من منطقة النصيرات قال أهلها المرشدون إن هذه الطريق أقرب إلى الوجهة. صار الجسد ثقيلاً بالمشي بعد أن علق الطين بالأقدام لكن سرعان ما ظهر ملمح العائدين المشاركين معنا الطريق المقابل فصار الأمر أشبه بمارثون، من منا سيلحق بروحه قبل الآخر؟!
التقينا بالمفترق الذي بدا وكأنّه حلماً بعيداً على مدار السنة وثلاثة شهور الآن. كلّما تملكنا تعب نظرنا إلى من سبقونا وسبقت خطواتهم خطواتنا فنسارع أكثر. نبت صوت بداخلي لحظتها فيما الخطوات تتسارع:
إلى أين أيتها الملهوفة؟!
تجاهلته، ومشيت، أنا مثل كل هذا الجمع الذي يسبقني وخلفي مَن يصارع خطواته. أنا مثلهم، لا شيء يعجبني حقاً، لكنني أريد أن أعلق روحي في جسدي؛ كي أصحو من ذنب تكرار الحلم، والدخول بقناعة إلى كابوس البحث عن سبل البقاء. لقد كان حلماً أن ننجو، والآن دخلنا إلى كابوس البقاء في حيزاً كبيراً من الرماد والركام، لأننا لا نريد أن نخون أرواحنا مرتين!!
العودة إلى شمال غزة