من وإلى الخيمة: لم تعيد الهدنة للنساء خصوصيتهن  

من وإلى الخيمة: لم تعيد الهدنة للنساء خصوصيتهن  

مرّت ثلاثة أيام عندما نزحت هبة زهير (*) إلى خيمة تأويها في دير البلح وسط قطاع غزة، فيما هي لم تخلع ملابس الصلاة ليل نهار، فالخيمة مصنوعة من نايلون شفاف وبلا باب، مدخلها عبارة عن فتحة مغطاة بقطعة قماش خفيفة سرعان ما تتطاير مع الهواء يمينًا ويسارًا.

لم تكن هذه أكبر مشكلاتها -على بشاعتها- مع الحرب التي تشنّها الخيام على خصوصية الأفراد القاطنين فيها؛ بل كانت الذهاب إلى المرحاض، وهو ما لم يكن مُتاحًا لخيمتها، فيما يتوفر آخر خاصّ بالجيران لكنه يبعد مسافةٍ طويلة ويتطلب إذنًا للدخول ولا يتاح لهم ليلًا.

اضطرت هبة في هذه الظروف إلى وضع جردل صغير يستعمله الأطفال لقضاء الحاجة، خاصّة في ساعات الليل، بينما أمضت السيدة في بداية انتقالها للخيمة شهرًا كاملاً دون أن تستحم، فوضعت نايلون أسود في محيط مدخل الخيمة، وبدأت في استحمام أطفالها واحدًا تلو الآخر، وجعلت البقية يقفون خارج الباب خوفًا من دخول أحد إليهم بغتّةً.

تقول هبة وهي تتنهد قهرًا: "العيش في خيمة بمثابة الإقامة في الشارع، مصنوعة من النايلون لا شيء يستر عورات حياتنا، مكشوفين أمام الجميع في كل تفاصيلنا، كل أنشطتنا تشاركية، الخيام متلاصقة وحتى الهمس يسمعه الجيران".

أضحت هذه الخيمة، مسكنًا لاختبار مرارة النزوح، ليست مجرد مأوى؛ بل هي شهادة على الحياة التي لا تُتيح لها مساحة للراحة ولا تتوفر فيها أدنى مقومات الخصوصية. تضيف: "عذاب متواصل في أداء أصغر مهمة إلى أكبرها وفي كل نهار أنتظر غروب الشمس لينتهي وفي كل ليلة أنتظر شروقها".

في مخيمها الذي يترامى على شاطئ البحر، كانت تعيش هبة وسط بحر آخر من المعاناة التي لا تنتهي، فبعد تطويرات قدّمها الصليب الأحمر للمخيم الذي عمد على إنشاء حمامات للقاطنين فيه، أصبحت كل سبع عائلات تتشارك حمامًا واحدًا يفتقر إلى المياه، ويقف فيه الأفراد طابورًا لانتظار دورهم.

على مدّ البصر في جنوب قطاع غزة، تنتشر الخيام التي اضطر النازحون لإنشائها بعدها هُجرُوا جرّاء الحرب الإسرائيلية التي استمرت 15 شهرًا عليهم، أما اليوم وقد بدأ سريان الهدنة منذ بضعة أيام، فإنّ كثيرًا منهم يستعدون إلى العودة لنصب خيامهم على ركام منازلهم شمال قطاع غزة، بعدما دمّر الاحتلال (161,600) وحدة سكنية تدميرًا كليًّا، وأحال (82,000) وحدة سكنية إلى عدم صلاحية السكن، وفقًا لإحصاءات المكتب الإعلامي الحكومي.

ظاهريًّا يبدو مشهد الخيام من المناطق المرتفعة عن مستوى الأرض يُدمي القلب؛ ومع ذلك فإنّه من الداخل أكثر بشاعة وقساوة، خاصّة عندما نرى انعكاساته على حياة النساء اللواتي يُشكِّلن ما نسبته (49%) من التشكيل الجندري السكاني لقطاع غزة، ما يُشير إلى حياة قاتمة ومضنية يعشيها نصف المجتمع -إذا لم يكن معظمه- في ظروفٍ غير آدمية مهينة لكرامة الإنسان.

ويعتبر الحق في كرامة الإنسان أحد الحقوق الأساسية التي لا يُمكِن انتهاكها، وهو من المبادئ المركزية في ميثاق حقوق الإنسان الدولي. ويتضمن هذا الحق أن يُعامل كل إنسان بكرامة واحترام دون التعرض للإذلال أو القهر أو المعاملة المهينة أو اللاإنسانية. 

وقد نصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن جميع الأفراد يولدون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وتعتبر (المادة 1) من هذا الإعلان العالمي أنّ "جميع الناس يولدون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق". كما يوضح العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنية والسياسية في (المادة 7) أنّه لا يجوز تعريض أي شخص لمعاملة أو عقوبة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة.

كما تفيد ورقة حقوقية نشرتها مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان إلى أنّ الكرامة أساس لجميع الحقوق الإنسانية الأخرى، إذ لا يمكن تصور تمتع الإنسان بأي حق آخر إذا كانت كرامته معرضة للانتهاك، وأشارت إلى أنّ حياة النساء في الخيام بلا أدنى مقومات للخصوصية هي انتهاك واضح لحقهم في حياة كريمة مارسه عليهم الاحتلال عندما اضطرهم للنزوح والبقاء في ظروفٍ غير آدمية.

وفاء حامد (*)، في الثلاثينيات من عمرها، تبدو على ملامحها آثار وعكةٍ صحيّة، فيما هي لا تعاني ألمًا بعينه؛ لكنها تُكابد عذاب الحياة وتفتقد الكثير من خصوصيتها التي تُساعدها على الاهتمام بنفسها في خيمة شديدة الاكتظاظ في دير البلح وسط قطاع غزة.

بدأت حامد رحلتها مع النزوح بمحنة أشد، عندما انتقلت قسراً رفقة عائلتها من معسكر جباليا في نوفمبر 2023، وأُعتقل زوجها على حاجز نتساريم. بعد ذلك، نزحت عائلتها بين المدارس والخيام في مناطق متفرقة من قطاع غزة، وصولاً إلى قرية الزوايدة وسط القطاع، تقول: "المخيم كله يعرف أخبارنا، لا خصوصية لنا، وكل شيء أصبح مشتركًا."

تُردف وفاء في حديثها لـ "آخر قصة"، "كل شيء مشترك وكل مهامنا اليومية نؤديها داخل الخيمة، غسل الملابس، جلي الآنية، الاستحمام، طهي الطعام وتناوله أيضًا، النوم، الصلاة، واستقبال الضيوف، نؤدي كل هذه المهام على أرضية رملية يكسوها الحصير وجدران من النايلون وفي مساحة 6×4 متر".

ووسط دمارٍ هائل وصلت نسبته إلى 88% من قطاع غزة، وتردي الأحوال الاقتصادية لعموم سكان القطاع بمعدّل فقر اقترب من 100%، أصبح من الصعب على كل أسرة أن تنفرد بخيمةٍ مستقلة وحدها خاصّة في ظلّ ارتفاع أسعار الخيام مع تكرار عمليات النزوح وازدياد الحاجة لهم، فتفاقمت مشكلات ومعاناة العائلات داخل الخيام بشكلٍ كبير.

حاولت وفاء التي تعيش مع عائلة زوجها في الخيمة، التأقلم مع هذا الظرف خاصّة بعد مرور الوقت، لكنّ ازدحام خيام النازحين والتصاقهم ببعضهم البعض جعل الحياة للجميع تشاركية، تضيف: "لا يوجد حدود ولا مكان منغلق عليك كما كنت في بيتك، المشاكل لا تنتهي، لا أستطيع تربية أبنائي بشكلٍ جيد، لا أستطيع الانفراد بهم بخصوصية مطلقًا".

ومع كل لحظة تمر، تزداد معاناة هؤلاء النساء في الخيام، إذ يُواجهن تحدي الحياة بلا خصوصية، بلا مكان يشعرن فيه بالاستقلال والراحة؛ بل يمارسن طقوس حياتهن في عالم مليء بالضغوط النفسية والمعنوية وانتهاك كرامة الإنسان وآدميته.

بدورها، أكّدت المختصة النفسية من برنامج غزة للصحة النفسية ختام أبو شوارب، أنّ غياب الخصوصية في الخيام يسبب ضغوطًا هائلة على النساء، ويزيد من معاناتهن في ظلّ تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

وقالت أبو شوارب: "النساء في هذه الظروف يتحملن أعباء إضافية، خاصة في غياب الخدمات الأساسية. ومن أصعب المواقف التي يعانينها، هي التكيف مع الحياة في المخيمات المزدحمة، حيث لا مكان خاص بهن، وتزداد معاناتهن بسبب نقص المياه وانعدام الكهرباء، فضلاً عن التحديات النفسية التي يواجهنها يوميًا."

وأضافت في حديثها لمراسلة "آخر قصة"، أنّه "في ظلّ هذه الظروف القاسية، قد تكون النصائح التقليدية التي تتعلق بالرعاية الذاتية أو الحفاظ على الروتين اليومي غير قابلة للتطبيق أو حتى مجرد أحلام بعيدة المنال".

ومع ذلك نصحت المختصة النفسية أبو شوارب النساء في خيام النزوح بمحاولة اتباع أساليب للتفريغ النفسي والتعامل مع الضغط الذي يواجهونه على مدار الساعة، ومحاولة تقبل الوضع المؤقت، رغم قسوته، والتركيز على اللحظات الصغيرة التي يمكن أن توفر الراحة أو حتى الأمل.

كما دعتهم إلى الاهتمام بصحة الأطفال والعائلة ليكون الأولوية الرئيسية لديهن، من خلال محاولات لتوفير النظافة الشخصية الأساسية والاهتمام بالأطفال في ظلّ قلة الموارد، قد تكون جزءًا من استراتيجيات التكيف.

وأشارت إلى أنّ النساء في هذه الأوضاع بحاجة ماسة إلى مساعدات عاجلة، سواء نفسية أو مادية، وأن تحسين الظروف المعيشية في الخيام هو أمر ضروري لتخفيف المعاناة المستمرة.

لم تعد الحياة في خيام غزة مجرد مأوى، بل هي رحلة مريرة لكل امرأة تحملت عبء الحياة في ظروف قاسية، ويبدو أنّها لن تنتهي بسريان الهدنة بين الأطراف المتنازعة في قطاع غزة؛ بل ستستمر إلى حيّن بدء عمليات إعادة الإعمار التي قد تأخذ سنوات ووقتًا طويلا من أعمارهن وصحتهن.

(*) أسماء مستعارة

موضوعات ذات صلّة:

 

أمنيات منسية: معاناة النساء في الحروب والنزاع

انعدام خصوصية النساء في مخيمات النزوح

حرب على الخصوصية

"ضاعت كرامتنا".. فقدان الخصوصية ووسائل النظافة عند نساء غزة