في بيئةٍ مليئة بالتحدّيات اليومية، مثل قطاع غزة الذي يعاني ويلات الاحتلال الإسرائيلي وما يُخلّفه من أزمات اقتصادية، اجتماعية، ونفسية، يصبح الحديث عن بناء "المرونة النفسية" ضرورة لا غنى عنها.
تعني المرونة النفسية القدرة على التكيف مع الظروف الصعبة والضغوط النفسية، مثل الحرب الطويلة، تدّاعيات انتهاء الحرب والعودة إلى حياة غير طبيعية، الصدمات المتتالية، البطالة، الفقر.
ولكن السؤال الذي يُطرح: كيف يمكن تعزيز هذه المرونة في نفوس السكان الذين يعانون في بيئة مليئة بالصراعات والنزاعات والأزمات والمشاكل المستمرة؛ لتنعكس على التأقلم في التعامل الإيجابي مع تحدّيات البيئة المحيطة؟
طالت الحرب الإسرائيلية التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023 حتى 19 يناير 2025، كامل أنحاء قطاع غزة، البشر والحجر والشجر، وأشدّ ما خلّفته قسوة هو الفقد، إذ تجاوز عدد الشهداء والمفقودين (57,136) شهيداً ومفقوداً، فيما فقدت (12,132) امرأة زوجها، وتسبب الحرب بنزوح مليوني إنسان، وخلّفت دمارًا يُقدّر بـ (88%) من قطاع غزة.
أمام كارثية هذا الواقع، تتطلب التحدّيات الكبيرة التي يواجهها السكان بعدما توصلت الأطراف المتحاربة في قطاع غزة إلى وقف إطلاق النار، أن يتحلوا بكثيرٍ من القوة لمواجهة سُبل العودة إلى حياة غير طبيعية وسط الظروف القاهرة من حولهم.
قررت السيدة مها جواد التي فقدت زوجها في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، أن تبيع الحلوى التي تصنعها في خيمة نزوحها في مواصي خانيونس؛ لتوفير احتياجات أبنائها الأربعة، وبدأت بشراء مكونات لصناعة أصناف مختلفة منها (الغريبة، النمورة، العوامة).
وعلى الرغم من غلاء الأسعار لاسيما السكر والطحين الذين شهدوا ارتفاعًا وانخفاضًا متباينًا خلال الشهور الأخيرة من الحرب الإسرائيلية في جنوب قطاع غزة، تمكّنت مها من توفير "بسطة" لابنها الأكبر أمام خيمتها؛ مما ساعدها على توفير دخل بسيط لعائلتها، فيما تقرر الاستمرار بمشروعها وتوسعته بعد عودتها إلى منزلها في منطقة "السلطان" برفح.
تقول مها إنّ صعوبات الحياة وحجم المسؤولية الكبيرة المُلقاة على كاهلها لا تمنحها رفاهية الانهيار النفسي، بينما لا تُخفي حاجتها المُلّحة إلى الدعم النفسي خاصّة من المُقربين منها، تردف: "لا تكادّ تمرّ ليلة دون أن أبكي على ما فقدت وعلى صعوبة ما أجد في أيامي".
تقول المختصة النفسية نفين عبد الهادي إنّ الآلاف من سكان قطاع غزة مثل مها أيضًا يواجهون صعوبة في إيجاد الدعم النفسي اللازم في ظلّ نقص الخدمات الصحيّة النفسية؛ ولكن، يبقى الدعم المجتمعي أحد أقوى أسس المرونة النفسية.
وحتى في أصعب الظروف، يبقى الترابط الاجتماعي والعلاقات الإنسانية مصدر قوة، وفقًا لعبد الهادي التي أكّدت على دور المبادرات المجتمعية الصغيرة، مثل مجموعات الدعم لأهالي الشهداء أو العائلات النازحة، يمكن للأفراد تعزيز شعورهم بالأمان والدعم.
خميس فرج (33 عامًا) أحد شباب غزة الذين انغمسوا في بناءِ ذاتهم والسعي لتأسيس مستقبلهم بعدما تخرج من كلية الهندسة، وافتتح مركزًا للتدريب كان يستقبل عشرات الطلبة في المجال ذاته شهريًا؛ لكنّه خسره تمامًا جرّاء الحرب الإسرائيلية، كما تدّمرت شقته السكنية التي كان انتهى من تأثيثها قبيل اندلاع الحرب بشهورٍ قليلة.
تبدو على الشاب في حديثه إلى "آخر قصة" علامات الحزن وقد تملكه اليأس على ما فقد، يقول: "لا أعرف كيف سأعود إلى الصفر من جديد، أعيد بناء كل ما خسرت، أشعر بعدم الرغبة في عمل شيء، أفكر في الهجرة، ولا أطمح في شيء".
تشير المختصة عبد الهادي إلى أنّ الكثيرين يواجهون صعوبة في الحفاظ على الأمل في المستقبل؛ لكن بناء مرونة نفسية يبدأ بتحديد هدف بعيد الأمد—سواء كان بناء منزل آمن أو الحصول على تعليم للأطفال—والتمسك به، فعلى الرغم من صعوبة الظروف، يبقى الاعتقاد في أن هناك غدًا أفضل هو محرك رئيسي لتجاوز الصدمات اليومية.
أما فيما يتعلق بآلاف العائلات التي فقدت أفرادًا منها، فإنّ جزءًا كبيرًا منهم يعيشون في حالة من الحزن المستمر؛ لكن بعض الأسر تظهر قدرة غير متوقعة على التكيّف، بفضل تعلم مهارات التأقلم الإيجابية مثل التفاؤل الواعي.
تقول المختصة النفسيّة: "على سبيل المثال، يمكن للأسر التي فقدت منازلها أن تبدأ في البحث عن طرق لإعادة التدوير أو استخدام الموارد المتاحة بشكل مبتكر لبناء حياة جديدة؛ إذ إنّ العيش في بيئة دائمة التغيير مثل غزة يتطلب القدرة على احتضان التحديات واعتبارها فرصًا للنمو الشخصي".
بشكلٍ عام، يعاني معظم سكان قطاع غزة صعوبة بالغة من تقبل نمط حياتهم الجديد خاصّة بعد انتهاء الحرب وتوقف العمليات العسكرية ومحاولة مواصلة الحياة والعودة من جديد لأماكنهم وأعمالهم بعد الدمار الهائل الذي حلّ في كافة مناحي القطاع.
في هذا الإطار وبجانب الدعم المجتمعي والنفسي، يحتاج الأفراد إلى استخدام تقنيات بسيطة تساعدهم على التعامل مع ضغوطات الحياة اليومية، مثل التقنيات التي تمنح الأشخاص فرصة للهرب قليلًا من صعوبات الواقع كالتأمل والتنفس العميق.
وعلى الرغم من أنّ التقنيات التي قد تبدو غريبة للبعض لكنّها تقدم مساحة من السلام الداخلي حتى في ظلّ أصعب الظروف، إذ إنَّ التمكين الذاتي والتعلم عن إدارة المشاعر يمكن أن يساعد الأشخاص على تقليل تأثير الصدمات النفسية على حياتهم اليومية.
بالإضافة إلى ذلك، يرى المختصون في المجال الاجتماعي النفسي أنّ التعليم والتدريب سلاح قوي للمرونة النفسية، ففي قطاع غزة حيث تغيب كثير من الفرص التعليمية، يمكن لتوفير التدريب في مهارات الحياة، مثل حلّ المشكلات، التفكير النقدي، وإدارة الوقت، أن يُساهم بشكل كبير في بناء مرونة نفسية.
وتمنح هذه المهارات الأفراد الأدوات اللازمة للتعامل مع التحدّيات، وتمنحهم شعورًا بالتحكم في حياتهم في وقت تعصف فيه الأزمات بالعالم من حولهم.
كما يُعد الفنّ أداة فعالة للتعبير عن الألم والتحرر النفسي، ففي بيئة مليئة بالصراعات، يلجأ العديد من سكان غزة إلى التعبير الفني -سواء من خلال الرسم، الكتابة، أو حتى الموسيقى- للتعامل مع تجاربهم المؤلمة.
وتقول المختصة النفسيّة نفين عبد الهادي، إنّ الفن يصبح نافذة لتحرير المشاعر المكبوتة، ويساهم في تخفيف القلق والتوتر، كما تلعب الفنون دورًا أساسيًا في بناء القدرة على التكيّف النفسي في ظلّ الأزمات المتواصلة.
فيما تشير إلى أنّ كل شخص يمرّ بتجربة صعبة يُمكنّه أن يخرج منها أقوى وأكثر مرونة إذا عُولِجت بشكل صحيح. وتقول: "في مجتمعنا الغزي، بعد تتالي الصراعات والحروب أصبحت التحدّيات جزءًا من الروتين اليومي، وفي هذا الإطار تصبح قصص الأفراد التي صمدت على الرغم من تكالب المصائب عليها، مصدرًا هامًا للقوة في المجتمع، إذ تُظهر كيف يمكن تحويل الألم إلى طاقة إيجابية".
في غزة، حيث تتقاطع التحديات مع الأمل، يمكن للمرونة النفسية أن تكون بمثابة مفتاح للنجاة، وذلك عبر التعلم المستمر، التواصل المجتمعي، والتعبير الفني، يستطيع سكان غزة بناء صمود غير مرئي ضدّ الصدمات التي تواجههم كل يوم. فيما يؤكد مختصون في المجال النفسي أنّ بناء المرونة النفسية ليس مسارًا سريعًا؛ بل هو عملية مستمرة تتطلب الصبر والقدرة على التكيّف؛ لكنه ممكن في أيّ مكان، حتى في أكثر الظروف قسوة.
مواضيع ذات صلّة:
- استراتيجيات لتحسين الرفاهية العقلية
المرونة النفسية