البرد ينخر عظام النازحين ويخطف أرواح  

البرد ينخر عظام النازحين ويخطف أرواح  

 يقف نحو 1.9 مليون نازح في غزة في مواجهة في طقسٍ قاسٍ وحرب طاحنة، بلا مأوى يحميهم أو دفء يخفف من حدةِ معاناتهم. تعيش الأسر في ظروف قاسية بسبب النزوح القسري المستمر منذ أكثر من 14 شهراً. تشير الإحصاءات إلى أن الغالبية العظمى منهم يتكدسون في خيام مهترئة و مراكز إيواء غير مجهزة، موزعين في مناطق مختلفة جنوب قطاع غزة، وتحديدًا غرب محافظتي الوسطى وخان يونس.

مع انخفاض درجات الحرارة واشتداد الرياح، يشكِّل الشتاء تهديدًا مباشرًا على صحة هؤلاء النازحين وحياتهم. فمعظم الخيام التي يقطنونها تفتقر إلى تدابير التدفئة أو الحماية من عوامل الطقس؛ ما يعرض الأطفال وكبار السن لمخاطر صحية جسيمة وبيئية فادحة.

هذه القصة المدفوعة بالبيانات تستعرض تأثيرات فصل الشتاء على النازحين في قطاع غزة جرّاء الحرب الإسرائيلية عليهم، مسلطةً الضوء على المخاطر المتزايدة التي تواجههم في ظل الظروف الاستثنائية التي يعايشونها.

في تقريرٍ صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان، عُنوِن بـ "نازحون في مهب العاصفة" تبين أنّ النازحين يتمركزون ضمن 543 مركزًا موزعون على محافظات القطاع ما بين المدارس الحكومية، والوكالة (UNRWA) والمدارس الخاصة، والجامعات، والمستشفيات، وغيرها من المؤسسات العامة، بينما يبلغ عدد الأسر التي تقطن في خيامٍ فردية أكثر من 36,000 أسرة تعيش في خيام قماشية لا توفر الحماية الكافية من الأمطار والبرد.

جميلة النادي، (56 عامًا) أم لستة أبناء وثلاثة أحفاد، وإحدى النازحات مع عائلتها في خيمةٍ قماشية متهالكة، في مخيمٍ بمنطقة المواصي غرب مدينة خانيونس، تقول: "في كل مرة نضطر للنزوح، ننجو بأرواحنا فقط، ولا نحمل معنا إلا أبسط المستلزمات، صنعنا هذه الخيمة من بعض الأغطية والأقمشة التي كانت لدينا وثبتناها بأسياخ الحديد لانخفاض تكلفتها".

وترزح النادي في مخيمٍ أرضيته من الطين؛ ما يترتب عليه صعوبة في الحركة عند تساقط المطر. أما خيمتها فلطالما غرقت بمياه الأمطار، تضيف: "استلمنا شادر من إدارة المخيم بعدما غرقت خيمتنا وغطينا فيه سقف الخيمة ومع ذلك تسربت الأمطار إلى الخيمة".

بينما يلعب أحفاد السيدة في الطين بلا أحذية تحمي أقدامهم الصغيرة من البرد. تقوم هي وأفراد أسرتها بإجراء صيانة للخيمة، بإضافة بعض سواتر رملية حولها لمنع انزلاقها، فيما يصعب عليهم الحركة خلال الأمطار داخل المخيم، إذ يتحاصرون في خيمهم الباردة. ومع أولى قطرات المطر، تتحول الأرض إلى مصيدة، تعيق الحركة وتزيد صعوبتها.

من أهم المخاطر أيضًا، هو تأثير هذه الظروف على صحتهم الجسدية والنفسية، إذ تشير السيدة النادي، إلى أنّها وأسرتها لا يكادوا يشفون من نزلات البرد، فيما يعاني زوجها أزمة تنفسية، وهو ما أشار إليه الطبيب العام في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة محمد أكرم، أنّ النازحين في قطاع غزة يعانون مخاطر صحية متعددة نتيجة الظروف القاسية التي يعيشون فيها، خصوصًا في فصل الشتاء. تشمل هذه المخاطر الأمراض التنفسية مثل الزكام والأنفلونزا بسبب البرد والرطوبة، بالإضافة إلى الأمراض المعدية الناجمة عن المياه الملوثة ونقص الصرف الصحي، مثل الإسهال والتسمم الغذائي.

كما يعانون من أمراض جلدية بسبب الرطوبة، وأيضًا من المخاطر النفسية مثل القلق والاكتئاب نتيجة الظروف المعيشية الصعبة. إضافة إلى ذلك، تزداد المخاطر بسبب غياب وسائل التدفئة المناسبة، مما يعرضهم للتسمم بالغازات السامة والإصابات الناتجة عن محاولات التدفئة البدائية.

واستقبلت محافظة خانيونس حيث تنزح "النادي"، بعد انتهاء اجتياحها البري، مئات الآلاف من النازحين من سكان محافظة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، وقدّرت المصادر المحلية عدد المواطنين والنازحين في نطاق خانيونس بنحو (1,200,000) شخص، جميعهم معرّضون إلى مخاطر الشتاء التي تزيد حدّتها في ظل المنخفضات الجوية.

وبينما تواجه الخيام المُقامة على شاطئ البحر خطر المد البحري، تُشير إحصاءات محليّة إلى أنّ (362) أسرة غرقت على شاطئ بحر دير البلح منتصف أيلول الماضي، كما غرقت أيضًا (200) أسرة على شاطئ الزوايدة، وعلى شاطئ النصيرات غرقت (174) أسرة.

في مخيم للإيواء اسمه "الوفاء" في قرية الزوايدة وسط قطاع غزة، بدا منذر شريف منهمكًا في حشو أكياس بلاستيكية بالرمل، أحاط بها خيمته لصدّ المياه ومنع تسربها إلى الداخل، وهو واحدٌ من النازحين الذين سبق وأن تعرضت خيامهم إلى الغرق.

يروي شريف تفاصيل نزوحه المرير قائلًا: "نزحت مع أسرتي المكونة من 8 أفراد، جميعهم أطفال، من مخيم جباليا إلى حي السلام في مدينة رفح. مكثنا هناك حتى أمر الاحتلال بإخلاء المدينة في إبريل الماضي، حينها قصفت الطائرات المبنى الذي كان يقيم فيه مع أسرته، ولم يتمكن في لحظة نجاتهم من استخراج أي من امتعته".

لاحقاً، لجأ شريف وأطفاله إلى مدرسة مجاورة، قبل أن ينتهي بهم المطاف بالاتجاه شمالاً نحو قرية الزوايدة وسط قطاع غزة، حيث أقام بين جيرانه ومعارفه في مخيم "الوفاء"، وقال: "ساعدني الجيران بقطع من القماش والنايلون قمت بتثبيتها على أربعة أعمدة خشبية، وبعدها صرنا نطلق عليها خيمة، في الواقع لا تتجاوز مساحتها 16 مترًا، نغطي أرضيتها بسجادة بالية ننام عليها، فنحن لا نملك أي من الملابس أو الأغطية والفراش".

جيران شريف داخل المخيم لا يعد أحسن حالاً، فجميعهم في "الهواء سواء"، كما يقال في المثل الشعبي. وقال الرجل: "الأرض التي نقيم عليها طينية ولا تمتص المياه بسهولة، وهي منخفضة عن الشارع العام بحوالي 70 سم. أخبرنا صاحب الأرض أن المكان معرض للغرق بسبب هذا الانخفاض. كما أن المخيم يفتقر إلى شبكات للصرف الصحي، ونضطر للاعتماد على الحفر لتمتص المياه بما في ذلك دورات المياه التي أقيمت لخدمة النازحين."

على الرغم من تعدد المخاطر واجتماعها على النازحين؛ إلا أنّ البيانات تُظهِر فجوة كبيرة في تلبية احتياجاتهم، إذ يحتاج النازحون إلى حوالي 50,000 خيمة جديدة مقاومة للظروف الجوية، كما يوجد حاجة إلى أكثر من 100,000 شادر بلاستيكي لحماية الخيام القائمة، ويعاني النازحون أيضًا نقصًا حاد في الملابس الشتوية والأغطية الثقيلة لنحو نصف مليون شخص (500,000 شخص)، بينهم (110,000) امرأة و(230,000) طفل، (70.000) من كبار السن.

تتشابك معاناة النازحين مع الظروف المناخية القاسية، ويبرز من بين الأرقام المقلقة قصص تكشف عن مدى تأثير غياب الاحتياجات الأساسية لمئات الآلاف من النازحين في الخيام ومراكز الإيواء.

ياسر عمار، البالغ من العمر (50 عامًا)، أحد النازحين في خيام في منطقة دير البلح، وسط قطاع غزة. يعيش الرجل وأسرته المكونة من 18 فردًا في أربع خيام مغطاة بالأقمشة والبطانيات وبعض النايلون المهترئ، فيما بدأت معاناته مع فصل الشتاء مع زخات المطر الأولى بتاريخ 2024/9/16 التي حوّلت حياتهم إلى كابوسٍ حقيقي.

يقول عمار: "في ذلك التاريخ، تبللت الخيام والفراش والملابس، لدينا احتياجات كثيرة، ولا شيء يكفي، لا الخيام تحمينا، ولا الفراش يكفينا، ولا الملابس تقي أطفالنا من برد الشتاء، الوضع المادي صعب للغاية، وأسعار الاحتياجات في السوق مرتفعة بشكلٍ لا يمكننا تحمله."

يشير الرجل إلى أن أسرته تعتمد على القليل من المساعدات التي تصلهم من المؤسسات الخيرية، وقال: "نعيش على الطعام الذي نحصل عليه من التكيات، وننتظر بفارغ الصبر المساعدات لتدعيم الخيام بالأخشاب وصيانتها، نحن بحاجة ماسة إلى شوادر وملابس شتوية، خاصة للأطفال".

وبشكلٍ عام تتسم أسعار الخيام ولوازم المأوى بالباهظة في أسواق جنوب قطاع غزة (خانيونس، دير البلح، النصيرات)، ولا يستطيع النازحون تحمل كلفتها، فسعر المتر الواحد من النايلون اللازم لصيانة الخيام تأتي بين (10 -40 دولار أمريكي)، ويتراوح سعر الشادر البلاستيكي اللازم لتغطية أسقف الخيام بين (80 -200 دولار أمريكي)، أما أسعار الخيام الجاهزة تتراوح بين (200- 800 دولار أمريكي).

أما أسعار الملابس الشتوية للأطفال في جنوب قطاع غزة تأتي ما بين (12 -100 دولار أمريكي)، وللكبار بين (30- 200 دولار أمريكي)، وكذلك ترتفع أسعار الأحذية، وهي تتراوح بين (20-200 دولار أمريكي).

لا تنتهي مأساة القاطنين في خيام النزوح جنوب قطاع غزة في فصل الشتاء بما يواجهونه من مخاطر كارثية تتمثل في تسرب الأمطار وغلاء لوازم الخيام في الأسواق، حيث يواجهون تدهوراً في البنية التحتية، فضلاً عن وجود الكثير من الخيام في مواجهة المدّ البحري، بل تمتد إلى معاناتهم الشديدة إلى الشعور بالتجمد، وسط غياب وسائل التدفئة في ظلّ البرد القارس، وهو ما يهدد حياة الكثير منهم بالموت وبخاصة كبار السن والأطفال.

نتيجةً لهذه المخاطر، بلغ عدد الوفيات بسبب موجات البرد القارس وانعدام المأوى 7 أطفال رضع ورجل في قطاع غزة حتى الآن، وفقًا لإعلان وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، مطلع يناير الجاري.

 

أصبح النازحون هنا جنوب القطاع يتخوفون البرد ويرفعون أكفهم بالدعاء أن يحجب الله المطر، بسبب استمرار انقطاع التيار الكهربائي، وشح الوقود والغاز، وغلاء أسعار الأخشاب -إن وجدت-، بالإضافة إلى مخاطر إشعال النار بين الخيام المصنوعة من مواد سريعة الاشتعال كالنايلون والأخشاب التي تشكِّل تهديدًا كبيرًا على سلامة الناس، إذ تحرم هذه التحديات النازحين من أبسط وسائل التدفئة، وتزيد معاناتهم سوءًا بسبب التآكل الواضح في الخيام ونقص حاد في الملابس الشتوية والأغطية الأساسية.

إن استمرار هذه الظروف يمثل انتهاكاً للقوانين الدولية التي تضمن حق المدنيين في الحماية والعيش بكرامة. يقول المحامي والمستشار القانوني علاء حسن، إن "ما يتعرض له النازحون في قطاع غزة خلال فصل الشتاء يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، الذي يُلزم أطراف النزاع بحماية المدنيين وتوفير احتياجاتهم الأساسية".

وذكر أنّ المادة (3) المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع تُلزم بحظر أي اعتداء على حياة المدنيين أو تعريضهم للمعاناة غير المبررة، كما أن المادة (27) من اتفاقية جنيف الرابعة تؤكد ضرورة احترام كرامة المدنيين وحمايتهم في جميع الأوقات.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ المادة (11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تنصّ على حق كل فرد في مستوى معيشي كافٍ، بما يشمل المأوى المناسب، والغذاء، والملبس.

ويؤكد المستشار القانوني أنّ ما يعانيه النازحون من انعدام الحماية والتعرض المباشر للأخطار يشكل انتهاكًا واضحًا لهذه الحقوق، ويضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية قانونية وأخلاقية لتوفير الحماية لهم".

ويعد تعريض حياة المدنيين وأسرهم للخطر المباشر، سواء من خلال القصف أو تركهم يواجهون قسوة الشتاء بلا مأوى آمن، جريمة بموجب القانون الدولي الإنساني، ويجب محاسبة المسؤولين عنها وتوفير الدعم العاجل لإنقاذ هؤلاء النازحين من الكارثة الإنسانية التي يعيشونها.