في غزة، حيث الحصار يمتد كسحاب قاتم لا ينقشع، تختبئ قصص من المعاناة خلف جدران وخيام متهالكة، يحملها سكان مدنيون سحقهم الجوع والمرض والنسيان. في هذا العام، 2024، كتب أهالي القطاع الذين يرزحون تحت الحرب لأكثر من 13 شهراً، فصلاً جديدًا من الحزن، حيث كان الحديث عن الفئات الهشة هو العنوان الأبرز.
نساء وأطفال وكبار سن وذوو إعاقة، باتوا يشكلون الشريحة الأكبر من ضحايا الفقر والجوع، في وقت تتآكل فيه مقومات الحياة بفعل الحرب والحصار والغياب شبه التام للمساعدات. عام آخر من القهر والحصار، عاش فيه المهمشون بين أنقاض المنازل وأكوام من الأزمات الاقتصادية والصحية. حتى أضحى خلف كل باب خيمة أو مسكن مدمر، هناك قصة تستحق أن تُروى.
في أحد أحياء غزة المكتظة بالسكان، يجلس أبو محمود، رجل في السبعين من عمره، على كرسي خشبي قديم أمام منزله الذي تنبعث منه رائحة الرطوبة. يغلق عينيه بصعوبة، ممسكًا بيديه المتيبستين علبة دواء فارغة لارتفاع ضغط الدم. يقول بصوت متهدج: "كل يوم أستيقظ على ألم جديد في جسدي. لم أعد أستطيع شراء أدويتي الشهرية، فهي تكلفني حوالي 100 شيكل (30 دولارًا)، وهو مبلغ لا أستطيع تدبيره."
أبو محمود ليس وحده. أكثر من 40% من كبار السن في غزة يعانون نقصًا حادًا في الأدوية الأساسية، مثل أدوية الضغط والسكري. وبحسب إحصاءات محلية، 61% من المرضى المزمنين يواجهون صعوبات في تأمين احتياجاتهم الصحية، مما يؤدي إلى مضاعفات خطيرة وصلت في بعض الحالات إلى الوفاة.
في زاوية صغيرة من منزل متواضع، تجلس أم سعيد (*)، وهي أم لخمسة أطفال، بجانب فرن صغير حولته بسبب شح الغاز، إلى فرن يعمل بالحطب. تحكي أم سعاد بحزن: "كنت في شركة خدمات تنظيف المشافي كي أطعم أطفالي، لكن حتى العمل أصبح نادرًا الآن، ولا نتقاضى رواتب، والأسعار أضحت جنونية، لا أذكر متى كانت آخر مرة اشتريت فيها اللحم لأطفالي".
وأضافت أم سعيد "في الواقع نحن بحاجة إلى كل شيء، غذاء صحي، ومياه نقية، وعلاج، ورعاية، وقبل كل ذلك إلى أمن واستقرار، فالأيام تمضي بدون وجود أفق سياسي يقودنا إلى هدنة (...) أصبحت أتعاطى عقاقير مثبطة للتوتر".
النساء في غزة يمثلن الفئة الأكثر هشاشة في مواجهة الغلاء. وفقاً لتقارير محلية، فإن 70% من الأسر تعيلها النساء تعاني انعدام الأمن الغذائي. الأمومة هنا تتحول إلى معركة يومية مع الجوع، حيث تضطر النساء إلى الابتكار في إعداد الطعام بأقل الموارد المتاحة، بينما يحدق الأطفال في أمهاتهم بعيون جائعة.
براءة ضائعة ومستقبل مجهول
ولأجل الجوع أيضاً، أجبر غالبية الأطفال للعمل قسرياً لأجل إعالة أسرهم. فعلى زاوية مفترق طريق بحي الزيتون جنوب مدينة غزة، يقف الطفل يوسف (11 عامًا) بجانب عربة خشبية صغيرة، يبيع علبًا من البسكويت الرديء للمارة. يقول يوسف بابتسامة حزينة: "كنت أذهب إلى المدرسة، لكن الآن أعمل لأساعد عائلتي. نحن لا نملك المال الكافي، وأنا أريد أن أشتري الدواء لأمي".
على بعد بضعة أمتار يقف طفل آخر يدعى وليد علي (14 عاماً) أمام بسطة لبيع الوقود المستخلص محلياً. تبدو المشقة على وجه الطفل وعينيه شاحبتين ووجهه مصفراً. يقول أقف هنا لمساعدة أبي في بيع الوقود إلى السائقين والمارة. أبي يوكل لي مهمة تعبئة العبوات بلترات السولار المصنع من البلاستيك المحلي، لكنني بين حين وآخر أشعر بالاختناق نتيجة الانبعاثات الخانقة. لا يعرف وليد عن التعليم الإلكتروني شيئاً، ولم ينخرط بأي من الدروس، وذلك لانعدام خدمات الإنترنت في منطقة سكنه، كما قال.
في ملعب صغير تحول إلى أرض ترابية بعد أن تهدمت أسواره، يجلس الطفل طارق، البالغ من العمر 10 سنوات، مرتدياً حذاءً مثقوباً، وقدماه تلامسان الأرض الباردة. ينظر إلى السماء بحسرة: "كنت أذهب إلى المدرسة قبل أن تُقصف، لكن الآن أجلس هنا، لا أملك حقيبة أو كتباً. أريد أن أتعلم لأصبح مهندساً، لكن يبدو أن هذا الحلم بعيد جداً".
مثل يوسف ووليد، هناك أكثر من 400 ألف طفل في غزة انقطعوا عن التعليم بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة. تضاعفت معدلات عمالة الأطفال في القطاع بنسبة 20% مقارنة بالعام الماضي، فيما يعاني 30% من الأطفال من سوء التغذية الحاد، وهي نسبة تعد الأعلى منذ عقدين.
على هامش العالم
ولا يعد ذوي الإعاقة أحسن حالاً من سابقيهم من الفئات الهشة، ففي غرفة ضيقة ومظلمة، يجلس أحمد (23 عاماً) الذي يعاني إعاقة حركية منذ الطفولة، على سريره، ينظر من شرفته التي تحطم سورها بفعل الحرب إلى الأطفال الذين يلعبون في الشارع. يقول بحسرة: "لا أستطيع الذهاب إلى أي مكان فالكرسي الكهربائي الذي كنت أستخدمه أصبح معطلًا، ولا أحد يهتم بنا".
يشتكي أحمد من تراجع مستوى الخدمات المقدمة لفئة الأشخاص من ذوي الإعاقة، وبخاصة الأدوات المساعدة والحفاظات والكراسي الكهربائية، ناهيك عن انعدام المواءمة في مراكز توزيع المساعدات الإغاثية، وقال: "أحيانا نشعر بأننا مواطنون درجة ثانية".
أحمد ليس حالة استثنائية، في غزة، يعيش 6% من السكان مع إعاقة دائمة، ويعاني 70% منهم من عدم توافر الأجهزة التعويضية أو التأهيلية، مما يعزلهم عن المجتمع. تشير التقارير إلى أن نصف هذه الفئة لم يتلقوا أي دعم خلال العام بسبب الحرب.
يعاني الأشخاص ذوو الإعاقة في غزة من نقص حاد في المعدات الطبية والتأهيلية، حيث تشير تقارير إلى أن 60% منهم لا يحصلون على الخدمات الأساسية، مما يزيد شعورهم بالعزلة.
الباحث فراس جابر، مؤسس مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، من جهته، أكد أن هناك عيوباً جوهرية في تصميم برامج التدخلات الإنسانية والإغاثية.
وقال جابر: "تصميم برامج التدخلات في حالات الطوارئ يظلم الفئات الأكثر ضعفاً، وعلى رأسها الأشخاص ذوو الإعاقة. معظم مراكز الإيواء ومراكز توزيع المساعدات لا تُراعي احتياجات هذه الفئة، ما يجعلهم يعانون مضاعفات إضافية فوق معاناتهم اليومية".
وأشار إلى أن المؤسسات الدولية، بما في ذلك الأونروا، تفتقر إلى برامج ذكية تستهدف ذوي الإعاقة بشكل فعّال. وقال: "رغم مرور عام كامل على الحرب، لم نرَ أي تغييرات جوهرية في برامج الإغاثة، هذه المؤسسات بين عاجزة وغير راغبة في توفير حلول جذرية للأشخاص ذوي الإعاقة".
في ظلّ غياب خطط التنسيق بين الجهات الإغاثية، باتت الفئات الأقل حظاً مثل ذوي الإعاقة تواجه مصيراً قاسياً. الباحث جابر تحدث عن أمثلة صارخة للإهمال، قائلاً: "على سبيل المثال، مراكز الإيواء والملاجئ التي يُفترض أن تكون ملاذاً آمناً، لا تتوفر فيها أي تجهيزات تناسب الأشخاص ذوي الإعاقة. حتى مراكز توزيع المساعدات لا تأخذ في اعتبارها احتياجاتهم اللوجستية مثل توفير دورات مياه ملائمة أو ضمان وصول المساعدات إليهم بسهولة".
التحديات الكبرى وآثارها
على مستوى آخر، شهد عام 2024 تراجعاً ملحوظاً في حجم المساعدات المقدمة لسكان قطاع غزة، مما تسبب في مجاعة للسكان، ناهيك عن نقص التغذية الذي هدد حياة عشرات الأطفال، نتيجة شح المواد الغذائية والأدوية والحليب للرضع، وهو ما دفع ببعض الأسر إلى بيع ممتلكاتها لتأمين قوت يومها وأطفالها.
تقول السيدة ياسمين عبد الله (*) لقد اضطررت إلى بيع ما تبقى من مصاغي لأجل الإنفاق على أسرتي، وبخاصة بعدما تعطل زوجي عن العمل في قطاع السياحة، مشيرة إلى أن شح المساعدات وضع الأسر الفقيرة أمام تحدٍ كبير وخيارات صعبة، حيث وجدوا أنفسهم إما بحاجة إلى طلب الاستدانة أو بيع المصاغ أو ما تبقى من أثاثهم البالي.
وشهدت أسعار المواد الغذائية ارتفاعًا غير مسبوق، حيث بلغ سعر كيلو الدقيق 6 دولارات، وسعر لتر الزيت 8 دولارات. هذا الارتفاع جعل 90% من السكان يعتمدون على المساعدات الإنسانية بشكل كلي.
على الصعيد الصحي، وبسبب نقص الأدوية والتجهيزات الطبية، ارتفعت معدلات الوفيات بين المرضى المزمنين بنسبة 15%. كما فاقم نقص المياه النظيفة من حالات الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي، حيث يعاني 70% من السكان من تلوث المياه.
ويضطر الآن الحاج عبد الهادي سليم (66 عاماً) إلى شراء علاج المعدة، بـ"الحبة" وذلك في ظلّ عجزه عن دفع قيمة شريط العقاقير الذي ارتفع سعره سبعة أضعاف. وقال لم يعد بمقدوري أن أشتري علاجي كاملاً، رغم أنه معرض للانقطاع في ظل منع إدخال الأدوية، لكني لا أستطيع شراء كمية تزيد عن عشر حبات في المرة الواحدة كل عشرة أيام.
ورغم الظروف المأساوية، شهد العام المنصرم 2024 بروز بعض المبادرات المحلية التي أعادت الأمل للسكان، ومنها على سبيل المثال، نظمت مجموعات شبابية مختلفة مبادرة لتوزيع الطرود الغذائية على الأسر الأكثر حاجة وكذلك أغطية وفراش وخيام، وقدموا خدمات تعليمية مجانية للأطفال المنقطعين عن المدارس. ومع ذلك، وجه الكثير من الانتقادات والشكوك حول عدالة توزيع هذه المساعدات.
ولأجل تلافي الشكوك، قدم الباحث الاجتماعي عطا سليمان مجموعة من الأفكار التي قال إنها قد تسهم في تعزيز العدالة الاجتماعية، وفي مقدمتها إيجاد آليات للرقابة على المبادرات والجهود المؤسساتية التي تنصب على تقديم الخدمات للسكان وبخاصة النازحين.
وشدد سليمان على ضرورة تعزيز المساعدات الدولية، موجها دعوة إلى المجتمع الدولي لتقديم مساعدات غذائية ودوائية عاجلة، من شأنها مواصلة تقديم الخدمة الصحية، وتحسين جودة حياة الأشخاص وبخاصة الفقراء والأسر المعوزة.
كما أشار إلى أهمية تطوير برامج وأنشطة دعم قطاع التعليم، وتوفير بيئة مناسبة تساعد على استئناف العملية التعليمية، بالإضافة إلى ضرورة إنشاء صندوق طارئ لتوريد الأدوية والمستلزمات الطبية اللازمة لأصحاب الأمراض المزمنة من السكان، فضلا عن ضرورة العمل على تمكين النساء، عبر تقديم مشاريع صغيرة لمساعدتهن على تأمين دخل ثابت.
مع انتهاء عام 2024، تزداد التساؤلات حول ما يحمله المستقبل لغزة وسكانها، فهل سيشهد العام الجديد تغييراً حقيقياً في حياة الفئات الهشة، أم سيظل الوضع على ما هو عليه؟، قصص المعاناة قد تكون كثيرة، لكن صمود سكان غزة يبقى شعلة الأمل التي لا تنطفئ.
(*) أسماء مستعارة