لا يختلف اثنان على أن وسائل بقاء الناس في قطاع غزة على قيد الحياة يتلاشى مع اشتداد الحرب ضراوةً يوماً بعد آخر، بالتزامن مع الوقائع الإنسانية والصحية الأخرى التي فرضتها الحرب، والمتعلقة بشح الغذاء وانعكاساته على صحة الصغار على وجه الخصوص.
وفي وقت تتعذر فيه التدخلات الإنسانية بسبب الرفض الإسرائيلي، طبقاً لإفادات منظمات دولية تعمل على تحسين ظروف المواطنين المدنيين الذين يطحنون تحت نير الحرب للشهر الخامس عشر على التوالي، يطل شبح المجاعة برأسه على جميع أرجاء القطاع.
ووفقاً لمنظمة اليونيسيف، فإن 96% من النساء والأطفال لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية. وعلى الرغم من أن الشراكة العالمية للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي تفتقر إلى القدرة على الوصول الكافي لتقييم حالة التغذية في غزة بدقة، إلا أن التصنيف يفيد بأن الظروف مهيأة لتتحقق أسوأ السيناريوهات المحتملة: انتشار المجاعة في جميع أنحاء قطاع غزة لتطال سكانه البالغ عددهم مليوني شخص بين نوفمبر 2024 وأبريل 2025.
تقول المديرة التنفيذية لليونيسف إن "الأطفال لم يبدأوا هذا الصراع وليس لديهم القدرة على إيقافه، ومع ذلك فهم يدفعون الثمن الأغلى بحياتهم ومستقبله".
إحدى هؤلاء الأطفال تدعى مسك المدهون. تعاني الطفلة من سوء التغذية الحاد الشديد حيث تدهور وزنها من تسعة إلى حوالي أربعة كيلوغرامات، وما زال ينقص فيما تذوب وتذبل الطفلة البريئة أمام أعين والديها.
تقيم عائلة مسك في مركز للنازحين غرب دير البلح وسط قطاع غزة. يجلس والدها بالقرب منها يحمل أخاها الصغير، والحزن والأسى يملآن عينيه وهو ينظر إلى قرة عينيه وهي بالكاد تستطيع التقاط أنفاسها.
وصفت والدتها التي كانت تحتضنها، الظروف التي أدت إلى وصول مسك إلى هذه الحالة، فقالت في سياق إفادة قدمتها إلى أخبار الأمم المتحدة، "نزحنا من الشمال إلى رفح، وبعد اجتياح المنطقة، انتقلنا إلى دير البلح حيث عشنا في خيمة. كانت ابنتي تعاني يوميا من ارتفاع درجة حرارتها لأكثر من 40 درجة مئوية. كنا نأخذها في منتصف الليل إلى المستشفى الأمريكي، الذي لم يكن يقدم لها سوى مسكنات الألم الأساسية".
وأضافت والدة مسك "وصلت ابنتي إلى هذه الحالة بسبب كثرة النزوح ونقص الطعام والمال، حيث كان وضعنا المادي قبل الحرب أفضل ولله الحمد، لكن بسبب الحرب والنزوح توقف عمل زوجي، ولم يعد قادرا على توفير الطعام والشراب لنا، ولهذا تعاني ابنتي من سوء التغذية الحاد".
تشير والدة الطفلة، أن النوم يفلت من عيني ابنتها، وأنها تستيقظ باستمرار على واقعها المرير، فيما تشتد حالتها سوءا مع كل يوم يمر، وقالت: "سوء التغذية الذي تعانيه شديد لدرجة أنها لم تعد لديها شهية للطعام. وحتى بعد تلقي العلاج وتلقي الأطعمة العلاجية، يستمر وزنها في الانخفاض".
في مشهد يعكس الواقع الإنساني المأساوي في القطاع، توافدت عشرات النساء الفلسطينيات برفقة أطفالهن إلى عيادة طبية محلية تديرها جمعية أرض الإنسان بدعم من اليونيسيف في مخيم زعرب بمنطقة المواصي غرب خانيونس، لإجراء فحوصات طبية لأطفالهن الذين يعاني معظمهم سوء التغذية.
يشرح الطبيب محمد الأغا، المشرف على المركز الطبي واقع الأطفال، قائلاً: "نحن في هذه النقطة نتابع وضع الأطفال التغذوي، لدينا حاليا ما يقرب من مائتي حالة دخول لأطفال يعانون حالات سوء التغذية الحاد والمزمن. نقوم بمتابعة أسبوعية، ونتواصل مع العائلات في حال تغيبهم عن مواعيدهم".
بالإضافة إلى الرعاية الداخلية، يشير الأغا إلى أن الجمعية تقدم دعماً للأسر في هذا المخيم بعلاج مئات الأطفال الآخرين الذين يعانون سوء التغذية المتوسط وإرشاد أولياء أمورهم تفادي السيناريو الأسوأ باستخدام الموارد القليلة المتاحة لهم.
وبعد أن كان قطاع غزة مكتفيا ذاتيا بإنتاج البيض والحليب واللحوم والخضراوات، وصل سوء التغذية الحاد في الوقت الراهن إلى مستويات خطيرة ليزيد بمقدار 10 مرات عما كان عليه قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
ومن بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و59 شهرا يُتوقع حدوث 60 ألف حالة لسوء التغذية الحاد، منها 12 ألف حالة شديدة الحدة بين أيلول/سبتمبر 2024 وآب/أغسطس 2025.
وبشكلٍ عام يؤدي سوء التغذية بين الأطفال إلى عواقب شديدة طويلة الأمد قد لا يمكن علاجها لتستمر طيلة حياتهم، منها التقزم وضعف النمو الإدراكي وإضعاف جهاز المناعة وزيادة خطر الوفاة بسبب الأمراض الشائعة.
إزاء ذلك، دعت الأمم المتحدة إلى الوقف الفوري لإطلاق النار والإفراج عن الرهائن، وضمان دخول وتوزيع المساعدات الإنسانية على النطاق الواسع الضروري إلى جميع أنحاء قطاع غزة.
ومع ذلك لا توجد أي معطيات على أرض الواقع تشير إلى قرب إحراز تقدم في مباحثات التهدئة، والتي يرتبط تدفق المساعدات الإنسانية بتوقيعها، الأمر الذي يعيق من عملية تحسن ظروف الأطفال وتعافيه من نقص التغذية الحاد.
المجاعة غزة