"المادة 18" رخصة قانونية لقتل النساء في غزة

تُظلم الضحايا مرتين

"المادة 18" رخصة قانونية لقتل النساء في غزة
هدى بارود - ريما محمود

في وقتٍ متأخر من مساء 19 كانون الثاني/ يناير 2019، اخترقت رأس الشابة ف. م. رصاصة واحدة وأردتها قتيلة. كان المكان مظلماً عندما تجمّع الناس متتبّعين مصدر الصوت. وجدوها مُلقاةً على الأرض وهي لا تزال ترتدي نقابها، وفي المكان والدها وشقيقها الذي يحمل مسدساً شخصياً، تبعاً لما جمعناه من روايات أثناء بحثنا في القضية.

ف. م.* كانت واحدة من ست فتيات ونساء قُتلن في قطاع غزة عام 2019، وهذا الرقم يعادل عدد من قُتلن خلال النصف الأول من عام 2020 وفق تصريحات وزارة الداخلية في القطاع، ويعادل نصف الرقم الذي رصده مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي للوفيات غير الطبيعية للنساء في غزة في الأشهر السابقة من عام 2020، إذ سجّل 12 حالة وفاة تنوّعت بين انتحار وقتل وظروف غامضة.

والد ف. م. الذي كان يقف بجوار جثة الضحية قال للجيران المتجمهرين حولهما إن شقيقها قتلها بالخطأ أثناء تنظيفه للسلاح. هذا الكلام نفسه قاله للشرطة في مستشفى الأقصى، وسط قطاع غزة، غير أن هذه لم تكن الحقيقة.

تحقيقات الشرطة أثبتت أن ادّعاء الأب كاذب. بعد الأدلة التي عثرت عليها المباحث الجنائية، اعترف شقيق الضحية أن أباه قتل شقيقته ووضعَ المسدس في يده ثم أخبر الجميع بأن ابنه هو الفاعل. رغم ذلك، حصل الأب على حكم مخفف بالحبس خمس سنوات، تُحسب منها مدة احتجازه قبل النطق بالحكم، وقدّم استئنافاً وافقت النيابة العامة عليه.

إذا كانت الجريمة قتلاً عمداً تستوجب الإعدام كما نص القانون الفلسطيني للعقوبات 74 لعام 1936 في المادة 215 منه، والتي تنص على أن "كل مَن أدين بارتكاب جناية القتل قاصداً يعاقَب بالإعدام"، فما الذي خفف الحكم عن القاتل؟ ولماذا وافقت النيابة على الاستئناف؟

بعد تغيّر مجريات التحقيق، إثر اعتراف الابن، بات الأب يبحث عن أسباب جديدة تُبرّئه. وفي اعترافاته التي حصلنا على نسخة منها أثناء بحثنا، ادّعى أنه قتل ابنته بدافع الدفاع عن الشرف، رغم أن المدة التي تفصل بين اكتشافه عدم عذريتها، بحسب ادّعائه، وبينَ قتلها تجاوزت العام بقليل.

القتل دفاعاً عن الشرف كان مدخلاً جيداً استند إليه القاتل. قال في محضر التحقيق: "بعد شكوك بأن ابنتي تقابل شاباً في منزلي خلسة عرضتها على طبيبة في مستشفى خاص، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وقالت لي إنها ليست عذراء. فوعدت ابنتي ألّا أقتلها، وحاولت تقويم سلوكها".

قُتلت الضحية، وأثبتَ الطب الشرعي عذريتها، فسقطت حجة "اعتدائها على شرف العائلة" بديهياً، فيما ظلّت حجة تقويم السلوك حاضرة. والسلوك السيئ لـ(ف. م.) كانَ اقتناءها هاتفاً محمولاً، وفقَ ما أخبرتنا به والدتها م. ج. المُطلّقة منذ سنواتٍ.

قالت الأم: "تواصلَت معي ابنتي خلسة، أول مرة، من هاتفٍ محمول تمتلكه دونَ علم والدها الذي يمنعها من رؤيتي". وتابعت: "انتَهزَتْ ف. م. وجودها في عزاء أحد الأقارب وأعطت رقم هاتفها لزوجة خالها المتواجدة هنالك حتى أتواصل معها، وكانت تلكَ أول مرة أسمع فيها صوتها منذ تركتها وهي طفلة".

في الاتصال الأول بين الضحية ووالدتها، اشتكت الفتاة من معاملة أبيها السيئة، وشكّه بكل تصرفاتها ومصادرته هاتفها المحمول وضربها أكثر من مرة لأنها تقتنيه. وأضافت الأم: "عندما كنت أهاتفها كانت شقيقتها تراقب الطريق إلى أن ننهي المكالمة، كي لا يعرف والدها فيعنّفها".

"قبلَ أيام من وفاتها، تواصلت معي ابنتي وأخبرتني أنها ستذهب إلى عرس ابن عمها، يوم السبت 19 كانون الثاني/ يناير، وأنها بحاجة إلى ملابس مناسبة فوعدتها بأن أرسل إليها وإلى شقيقتها ملابسَ جديدةً خلسةً. وطَلَبتْ أن أحضر لأراها فلم أعدها بذلك خوفاً عليها من والدها"، روت الأم وهي تمسح الدمع الذي قطعَ كلامها لبُرهة، وتابعت: "كنت أتمنى لو أنني وافقت. أكبر خطأ ارتكبته في حياتي هو عدم ذهابي لرؤيتها. لم أتوقع أن تموت بهذه الطريقة البشعة، مسكينة يا ماما". سكتت الأم قبل أن تُعاود البكاء.

أثناء وجود الضحية في الفرح، قابَلَت خالتها وقضت وقتاً طويلاً برفقتها، فظنّت زوجتا والدها أن الخالة هي الأم. وأثناء عودتهم إلى المنزل أخبرتا الأب الذي أقلّهما قبلَ ذهابه لاصطحاب الضحية واثنين من إخوتها، فاستشاط غضباً، وفق رواية الأم التي أضافت: "فور وصول ابنتي وأشقائها إلى مدخل منزلهم، أطلق أبوها رصاصة اخترقت رأسها وأردتها قتيلة".

قال القاتل-الأب في محضر التحقيق إنه قتل الضحية دفاعاً عن الشرف، فيما كذّبته والدتها، وتساءلت: "لماذا في هذا اليوم تحديداً، يوم الفرح، قُتلت ابنتي؟! وإنْ كان قد ادّعى أنها غير شريفة فليثبت كلامَه بدليلٍ واحدٍ، وليُكذّب التقرير الشرعي الذي أكد عذريتها. ابنتي لا تستحق القتل، ابنتي ماتت مظلومة".

"قبول المعذرة"

ذات الادّعاء، أي "القتل على خلفية جريمة الشرف"، كان الحجة التي يسعى قاتل ص. ش/ زوجها إلى إثباتها، للفرار من عقوبة القتل. طلبَ من النيابة تقريراً عن محتويات هاتف القتيلة للبحث عن أيّة معلومات يمكن أن تنقله من تهمة القتل العمد إلى تهمة القتل على خلفية جريمة الشرف.

عائلة الضحية ص. ش.، وبعد يومين متتابعين من اللقاءات، رفضت أن ننشر المقابلة خشية من أي ضرر يطالهم، خاصة بعد اتفاقها مع عائلة الجاني على الاستمرار في الإجراءات القانونية والعشائرية، غير أننا حصلنا على الإذن لمناقشة القضية في إطارها العام، مستندين إلى ما نُشرَ عبر الإعلام.

وعن تفاصيل القضية، قال والدها في لقاء تلفزيوني إن شجاراً وقع بين ابنته وزوجها منتصف ليلة 10 شباط/ فبراير 2020، أدى إلى قتلها، وإنه فوجئ باتصال هاتفي من قريب له يبلغه بقتل ابنته خنقاً، وطالبه بالحضور إلى مستشفى الشفاء لاستلام الجثة.

الزوج القاتل يحاول الاستفادة من المادة 18 من قانون العقوبات الفلسطيني لعام 1936، وهي مادة تقرّ بوجوب قبول المعذرة في حال ارتكب الجاني جريمته درءاً لنتائج لا فرصة لاجتنابها، والتي لو حدثت لألحقت أذى أو ضرراً بليغاً بالجاني أو بشرفه أو ماله أو بنفس أو شرف أشخاص آخرين ممن هو ملزم بحمايتهم أو بمالٍ في عهدته. وهذه هي المادة التي استند إليها قاتل ف. م. للحصول على حكم قضائي مخفف.

هذا الجزء من القانون يمنح القاتل الحق في الحصول على حكم قضائي مخفَّف على جريمة القتل، في حال قتلَ لحظةَ مشاهدته الجريمة، فإذا قتل الزوج زوجته وهي في وضع علاقة غير شرعية تتحول الجريمة من جناية إلى جنحة، وفق مديرة مركز الأبحاث والاستشارات القانونية والحماية للمرأة زينب الغنيمي، التي قالت "مفهوم الدفاع عن النفس أو المال أو الشرف هو أن يُرتكب فعل القتل في حال كان هناك تلبّس، أي لو شخصاً هجم عليك لقتلك وقتلته أنتَ دفاعاً عن نفسك. ولا يصح الاستفادة من هذه المادة لو أن الشخص قَتلَ آخر لأنه سمع بأنه يريد قتله أو يهدده بالقتل"، وتابعت: "طالما لم ترَ الشخص في حالة اعتداء على محارمك، وسمعت مجرد سمع وقتلته لا تُسجَّل جريمة دفاع عن الشرف".

وأضافت: "من المؤسف تجيير مفهوم الدفاع عن الشرف في المادة 18 لتطبيق الضرورة لتبرير قتل النساء بادّعاء أنهن مَن اعتدينَ على شرف العائلة".

إذاً، القتلُ على خلفية الدفاع عن الشرف يستوجب رؤية الاعتداء، غير أن هذا ليس ما حدث في جرائم قتل النساء التي تابعناها أثناء إعداد التحقيق. الفتيات يُقتلنَ بحجة الدفاع عن الشرف إنْ اتهمهنّ أحدهم بالاتصال بشخص غريب أو التعامل مع غرباء على مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً، وفق الغنيمي التي تابعت: "القانون لا يقصد جرائم القتل هذه. لا يوجد تلبّس فيها، والاتصال التلفوني وعبر مواقع التواصل ليس اعتداءً على الشرف".

هذا التساهل في تطبيق القانون واعتبار أن أي تصرّف تمارسه الفتيات ولا يلقى استحسان وقبول محيطهن يبرّر قتلهنّ كانَ فرصة أمام الكثيرين من القتلة للهروب باتجاه الحكم المُخفف الذي تقدّمه المادة 18.

"كانت تهاتف شاباً" 

في واحدة من الملفات التي تابعناها، تغيّرت أقوال الأب لتبرير قتله ابنته، حتى انتهى به الحال إلى اتهامها بأنها تهاتف شاباً، وأثبتَ صحة ادعائه وحصلَ على صلحٍ جزائي إذ لم تسجل سابقة ضده، وقال إنه ضربها لتقويم سلوكها، ضرباً أدى إلى وفاتها.

استغل هذا القاتل القبول الاجتماعي لفكرة ضرب النساء لتصويب سلوكهن، وكان ظنه بفائدة ذلك القبول له في محله، فخرجَ بصلحٍ عشائري بعدَ أشهرٍ من ارتكابه الجريمة.

زينب الغنيمي قالت معلقة على الحادثة: "لا يمكن من وجهة نظري ونظر القانون اعتبار هذا اعتداءً على الشرف".

في كانون الثاني/ ديسمبر 2016، قتل رجل أخته غير الشقيقة، بعد أن احتجزها، وادّعى أنه قتلها دفاعاً عن الشرف. الأخت تعرضت أثناء الاحتجاز للضرب وقص الشعر وأجبرت على الأعراف بأنها مارست علاقة خارج إطار الزواج.

أثناء محاكمته، استند الأخ إلى فيديو قديم يعود تاريخه إلى عشرة أعوامٍ سابقة قبلَ جريمة القتل، صوّرته الضحية لنفسها مع الرجل الذي أصبح في ما بعد زوجها. اعتبر القُضاة أثناء المحاكمة هذا الفيديو دليلاً على صدق كلامه، إذ ادّعى استمرارها في ارتكاب الأخطاء الأخلاقية، ما دفعه إلى قتلها، رغم عدم وجود أدلة حقيقية على أيّ تصرّف حديث ارتكبته ويكن وصفه بأنه "غير أخلاقي". تجاهل القضاة أنّ القتل في هذه الحالة قتل عمد، وفق القانون، كما بيّنت محامية أهل الضحية امتياز حسب الله.

ارتكب الأخ بحق شقيقته جريمة اختطاف وتعذيب وقتل، إلا أن القضاة لم يأخذوا هذا بعين الاعتبار، واستندوا إلى فيديو قديم جداً لإدانة الضحية، وليخففوا الحكم عن الجاني، وفق المحامية التي فوجئت بأنهم حكموا على الأخ بالسجن عاماً واحداً فقط، بموجب المادة 18 من قانون العقوبات الفلسطيني لعام 1936.

وحتى لو لم يمتلك القتلة المعرفة القانونية التي تساعدهم على الاحتماء بالمادة 18، إلا أن القضايا في نهاية الأمر تُجيّر وتُكيف على أنها قتل "دفاعاً عن الشرف"، باستشارات قانونية من محامين.

وشهد عام 2020 حتى تاريخ إعداد التحقيق 12 حالة وفاة غير طبيعية لنساء في غزة، تنوعت أسبابها بين قتلٍ عمد وسقوط من علوّ وانتحار ورصاص طائش وظروفٍ غامضة، حسب متابعتنا.

وبلغ مجموع ضحايا القتل من النساء في القطاع منذ عام 2016 وحتى عام 2020 ثمانية وأربعون حالة، تبعاً لمركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي.

لم تتسنّ لنا معرفة مصير جميع قتلة النساء في غزة، في الجرائم التي وقعت خلال عام 2020، لعدم توافر معلومات منشورة عبر موقع المجلس الأعلى للقضاء، وبسبب التعقيدات المفروضة على تداول المعلومات حول هذا النوع من القضايا. رغم ذلك، عرفنا من أهالي الضحايا أن مِن القتلة مَنْ حصلوا على أعذار مخففة، ومنهم مَن لم يُلقَ القبض عليهم، فيما لا يزال آخرون قيد المحاكمة.

أثناء بحثنا عن مصير قتلة النساء في غزة، تبيّن أن عدداً كبيراً من الجُناة أُفرِج عنهم بعدَ أشهرٍ من ارتكابهم الجريمة، بسبب تخفيف الحكم القضائي عنهم، استناداً إلى التعديل القانوني رقم 3 لعام 2009، المعمول به في قطاع غزة، والذي أضاف مادة (18 مكرر) إلى المادة 18 لتطبيق الضرورة، وتنص على: "يجوز للمحكمة اعتبار عفو ولي الدم أو دفع الدية سبباً مخفِّفاً للعقوبة".

جرائم تسجل انتحاراً

بعض الجناة استفاد من الحكم المخفف وفق المادة 18، بعدَ اتهامهم للضحية بأخلاقها، وآخرون لم يسجنوا لأن الجرائم سُجلت انتحاراً أو قتلاً بالخطأ أو سقوط من علو.

أثناء بحثنا، توصلنا إلى أن بعض قصص قتل النساء سُجّلت انتحاراً. غير أن الملفت هو أن الانتحار يطال النساء المعنفات من عائلاتهن مسبقاً. فبين عاميْ 2016 و2018، سُجلت 16 حالة انتحار بين النساء في غزة، كانت أكثرها لنساء تعرضن لعنف مستمر داخل العائلة، وكانت أدوات الانتحار شنقاً عبارة عن غطاء الرأس أو حبل غسيل، وأسبابه المُعلنة هي الفرار من العنف أو الهروب من تهمة أخلاقية. غير أن بعض القضايا كانت تشير إلى شبهة قتل.

الشابة ع. غ. سُجلت قضيتها في النيابة العامة انتحاراً، لكن والدها يشك في أنها جريمة قتل. وعن تفاصيل القضية قال الوالد: "بتاريخ 20 حزيران/ يونيو 2018 حققت الشرطة مع م. ن. على خلفية وفاة زوجته، أي ابنتي، في ظروفٍ غير طبيعية، وقُيّدت الحادثة انتحاراً، ودُفنت ابنتي ولم آخذ عزاءها، وأرفض التسليم بانتحارها وأرجّح قتلها".

الوالد أ. غ. الذي قاطع عائلته نهائياً لأنهم سلموا بأن ابنته قَتلت نفسها خجلاً من اكتشاف زوجها لخيانتها وأخذوا عزاءها، كانت لديه المؤشرات التي استند إليها لدحض ادعاء انتحارها.

يقول إن الكثير من التناقض لفته بعد معرفته بوفاتها، كان الأهم هو الكدمات على جسدها التي رآها قبيلَ تشريح جثتها، على الرغم من أن زوجها وعائلته قالوا إنها وُجدت مشنوقة في غرفتها بغطاء رأس معلق بالمروحة ومربوط حول رقبتها.

في محضر التحقيق الذي حصلنا على نسخة منه أثناء بحثنا عن تفاصيل القضية، قال الزوج إنه لم يسبق له أن تشاجرَ مع زوجته، لكن الأب نفى ذلك قائلاً: "سبقَ لزوج ابنتي فتح جرة الغاز باتجاهها قاصداً إحراقها لأنها طلبت منه بصلاً لإتمام إعداد طعام الغداء"، وتابع: "لطالما اتصلت بي عائلة زوج ابنتي لأحل خلافات بينهما، وفي بعض المرات كانت الخلافات حول كأس شاي وتنظيف باحة المنزل".

يوم وفاة ع. غ. اتصل أقاربها بوالدها وأخبروه أن ابنته ماتت. وفي اليوم الثاني لوفاتها قال طبيب التشريح إنها انتحرت، فوقعَ الخبر على قلب الأب كالصدمة، وصُدمَ أكثر عندما علمَ أن خلافاً حاداً وقع بين ابنته وزوجها عشية وفاتها.

قال: "يدّعون أن ابنتي اعترفت بمهاتفة شخصٍ آخر، وعندما اكتُشف الأمر خجلت من نفسها وانتحرت في اليوم التالي. الغريب أن عائلة زوجها لم تتصل لإخباري بأن ابنتي مخطئة، أو أنها انتحرت، وانتظروا حتى علمت من الغرباء بخبر وفاتها".

وتابع غاضباً: "ابنتي قُتلت وأُخفِيَت الجريمة. وإذا قالوا إنها انتحرت فليُثبتوا ذلك. أعطوني الدليل على أن ابنتي أخطأت بحق زوجها لأسكت"، مضيفاً: "ابنتي ماتت، وهي لن تجيبني إنْ سألتها ماذا حدث معك، هم الأحياء فليجيبونني".

لم يستجب أحد لطلب أ. غ. وظلت كل الأدلة التي يمكنها تبرئة ابنته أو إدانتها غير متوافرة، وظل هو يرجّح أنها قُتلت.

إخفاء الأدلة 

عدم توافر الأدلة لا يؤرق الوالد أ. غ. وحده، فالمحامية إصلاح حسنية لا تزال حتى الآن تبحث عن الأدلة الجنائية التي تثبت مقتل الضحية ت. ك. حرقاً، في حادثة وقعت عام 2013.

قالت حسنية: "وقعت مشاجرة بين ت. ك وزوجها، وأصابها انهيار عصبي دخلت على أثره إلى المستشفى، وأعطاها الطبيب إبرة مهدئة، وبعد ساعة واحدة عُثر عليها محروقة داخل غرفتها في المنزل، دونَ أن تكون هنالك أية دلائل على حدوث الحريق في المكان. فالجثة كانت على السرير، والغرفة نظيفة ولا آثار حريق على الجدران"، متابعة: "كل الدلائل تشير إلى أن الفتاة حُرقت في مكان آخر غير غرفة نومها، لكن ملف القضية حُفظ مؤقتاً ولم يُكشف عن الجاني".

حالت علاقة أهل القاتل حينذاك بالسلطة في غزة دون استكمال التحقيق، وهو ما لم يُرض عائلة الضحية بطبيعة الحال، فحاولت عام 2017 فتح الملف مجدداً. التقت المحامية بالنائب العام فأمر بفتحه، لكن المفاجأة كانت أن موظفي نيابة المنطقة أبلغوهم بأنهم لم يعثروا عليه. وتعلّق حسنية: "حتى لو حُفظ الملف، أين إجراءات التحقيق الصحيحة التي يجب فعلها؟ هنالك ما يُسمّى باستدلال ومسح جنائي وتقرير طب شرعي، جميعها في قصة ت. ك. لم يتم التحقق منها".

"أحياناً يستفيد الجاني من تكييف القضية لتصبح ‘جريمة شرف’ من قِبل النيابة العامة، وبالتالي يضيع حق الضحية"، تقول مديرة مركز الأبحاث والاستشارات القانونية والحماية للمرأة زينب الغنيمي، وتضيف: "في الجرائم التي لا ترتبط بادعاء الدفاع عن الشرف يُعاقب الجُناة، أما في القضايا التي يدعي فيها القاتل أنه ارتكب جريمته دفاعاً عن الشرف، تُكيّف النيابة الجريمة على ذلك الأساس وينظر القاضي فيها وفق تلكَ المعطيات".

تشير الغنيمي إلى أن "هناك قضايا تُخفى الأدلة الجنائية حولها، أو تُتلف عند حدوث الجريمة، وأخرى يبرع المحامون في تحويلها إلى قضايا دفاع عن الشرف"، وتروي أنه "في واحدة من القضايا التي تابعناها قيل إن هنالك شبهة لعلاقة بين الضحية ورجل، واتجه رأي عضو النيابة والمحققين إلى أن الضحية تستحق القتل، رغم أنها لم تُقتل على تلكَ الخلفية، وقالوا إنهم سيغلقون الملف. فعلى أي أساس يُقفل طالما لم تُقتل الفتاة على خلفية شرف؟!".

حاولنا أثناء إعداد التحقيق التواصل مع مكتب النائب العام في غزة ضياء المدهون، غير أننا لم نحصل على ردٍ على مراسلتنا المكتوبة، فما كان مِنّا إلا أن شاركنا في لقاء خاص للنائب العام مع صحافيين استقصائيين وطلبنا منه مباشرة تحديد موعد لإجراء لقاءٍ مصور.

أثناء اللقاء، طلب منّا النائب العام معاودة التواصل مع مسؤول الإعلام في مكتبه طارق العف، وبعدَ أيامٍ جاء الرد بالرفض عبر رسالة على فيسبوك، والسبب وفق ما كتبه العف هو أن موضوع التحقيق، أي قتل النساء في غزة، ليس قضيةً عامة.

وبعدَ الانتهاء من كتابة التحقيق، طالبنا العف مجدداً بتحديد موعد لإجراء لقاء مع النائب العام، وقلنا في مراسلتنا إليه: "أجرينا لقاء مع دائرة حماية الأسرة والطفل ولكن الردود حول أسئلتنا كانت تقليدية، والتحقيق لا يزال ينقصه رأي النيابة العامة، فإذا تكرمتم بتحديد موعد مع النائب العام أو أحد المسؤولين المخولين بالرد"، غير أننا لم نتلقَّ أي جواب.

بقيت كل الأسئلة حول تكييف النيابة لجرائم قتل النساء وادّعاء القتلة بأن السبب هو الدفاع عن الشرف مفتوحة. لم نجد إجابة عليها حتى بعدَ تواصلنا مع مديرة دائرة الأسرة والطفل في الشرطة الفلسطينية مريم البرش.

البرش التي سبقَ لها اكتشاف جريمة قتل الشابة إ. ن.، بعدَ 27 يوماً من مقتلها في 17 أيلول/ سبتمبر 2019، قالت إن إحدى شقيقات الضحية أبلغت عن اختفائها، فبحثت دائرة حماية الأسرة في مصيرها وتأكدت من وقوع الجريمة، وبدورها بلّغت المباحث التي استدعت الأب واعترف بقتلها.

وتابعت البرش: "بعض قتلة النساء في غزة يدّعون أنهم يقتلون دفاعاً عن الشرف، وأغلب القضايا تكون الفتيات فيها شريفات ويُعاقَب القاتل، وكل قاتل يأخذ جزاءه".

وأضافت: "نستقبل قضايا تعنيف النساء بشكل مباشر أو غير مباشر، وبعض قضايا التعنيف تُحوّل من مؤسسات وجمعيات، ونتدخل لمنع الشخص المعتدي من مواصلة اعتدائه عن طريق أخذ تعهد منه، داخل قسم الأسرة".

وتعمد دائرة الأسرة إلى تأمين النساء اللواتي يشكل العنف خطراً على حياتهن في مراكز رعاية، كـ"بيت الأمان" الحكومي الذي يتبع لوزارة التنمية الاجتماعية و"مركز حياة الخاص" الذي يتبع لمركز شؤون المرأة، حتى تضع الحلول المناسبة وتواصل إجراءات الصلح لضمان عدم تعرّضهنّ للأذى.

وأرجعت البرش السبب وراء العنف والخلافات الأسرية إلى تعاطي المعنّفين للمخدرات. وقالت إن المجتمع في غزة محافظ، والجريمة ليست ظاهرة، وفي بعض الحالات تكون دون دافع كجرائم القتل بالرصاص الطائش.

لا تتوقف جرائم قتل النساء ووفاتهن بظروف غامضة في غزة. وفي كل قصةٍ لضحيةٍ جديدة تفاصيل لا يعرف الناس عنها سوى ما يُنشر في الساعات الأولى بعد وقوع الجريمة. وبين سؤالي "لماذا قُتِلت" و"هل تستحق القتل؟" تموت الضحايا مرتين، فيما ينفذ القتلة من القصاص مدعومين بقانونٍ يسحب رقابهم من حبل المشنقة برفق، وبمجتمع يسهّل تقبلهم من جديد، بل وينصّبهم أبطالاً في بعض المرات.

في كل سنة ترتفع نسبة المتوفيات من النساء وتتراوح الروايات حول أسباب الوفاة بين القتل العمد والانتحار والرصاص الطائش والظروف الغامضة، وبعدَ المعلومة الأولى عن مصير القتلة تهدأ موجة الغضب العام المنصبة نحوهم، وهكذا بدونَ توقفٍ.

في السنوات العشر الأخيرة، طالبت المؤسسات النسوية في فلسطين بإقرار قانون حماية الأسرة من العنف، غير أن القانون لم يلقَ استحسان وقبول محامين وبعض أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني الذين وقعوا عريضة رفض للقانون، ناهيك عن التظاهرات الرافضة له من بعض المجتمعات المحلية في الضفة الغربية وقطاع غزة على حد سواء، الأمر الذي يفتح المجال للشك حول جدية رفض قتل النساء على خلفية ما يسمى بـ"جرائم الشرف"، ورفض العنف تجاههن.

*سنخفي الأسماء والوجوه لأن القضية أكبر من أحداث منفصلة. إنها قضية ثقافة مجتمعية وقانون قاصر يقتلان الضحايا مرتين، الأولى بإزهاق أرواحهن والثانية باتهامهن بأخلاقهن وفبركة أدلة للترويج لذلك بعد قتلهن، لنجاة قتلة يحتمون بالقانون المعمول به في غزة. 

منقول بتصرف عن (رصيف 22)