الفقر  أجبر مواطنين على بيع مقتنياتهم 

الفقر أجبر مواطنين على بيع مقتنياتهم 

جلس خالد سليم (48 عاماً) من مدينة غزة، على كرسيٍ خشبي في أحدِ أطراف سوق الجمعة الأسبوعي شرق المدينة، يعرض طقم الكنب الخاص ببيته ويطلب مُقابِله 700 شيقلاً؛ إلا أنَّ معظم المارين يرونه مبلغًا باهظًا لقاء هذا الأثاث المستعمل.

ويحضر سليم إلى سوق الجمعة بين حين و أخر لبيع جزء من أثاث منزله المستخدم؛ لكسب بعض المال الضروري لتوفير احتياجات أسرته الأساسية في الوقت الذي لا يجد فيه أي فرصة عمل.

وكان سليم يعمل في مصنعٍ للباطون دُمر خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2021، ومنذ ذلك الوقت أصبح بلا عمل ويعتمد على الجمعيات الإغاثية كمصدرٍ رئيس للحصول على الغذاء، حاله حال 223 ألفاً عاطلين عن العمل في قطاع غزة.

يقول سليم في حديثٍ لـ "آخر قصّة": "لم تعد أمامي خيارات سوى بيع عفش وأثاث منزلي، فقد نفدت كافة الأموال التي ادّخرتها عندما كنت أعمل، ولم يتبقَ أي أموال لشراء احتياجات أسرتي المعيشية، والدواء الخاص بزوجتي المريضة بالسرطان".

ويوجد في قطاع غزة عدد من الأسواق الشعبية الأسبوعية يعرض فيها الباعة بضائع منها ما هو جديد وآخر مستعمل، وقد خصصت كل محافظة يوم أسبوعي لها ففي مدينة غزة تجد سوق الجمعة وفي رفح الأحد وهكذا.

وتُعرف هذه الأسواق عادةً بازدحامها الشديد، ووسط هذا الزحام كان يجلس محمد (37 عامًا) الذي فضّل ذكر اسمه الأول فقط، أمام جهاز حاسوب (لابتوب) وقد وضع عليه لوحةً كُتِب عليها "للبيع".

محمد الذي يسكن مدينة غزة تخرج من قسم المحاسبة في الجامعة الإسلامية، عمل بعد تخرجه لمدة عامين محاسبا في إحدى الشركات الخاصّة، ثم تحول إلى عاطلٍ عن العمل بعد فصل الشركة عدد من الموظفين نتيجة الركود الاقتصادي في القطاع.

وقال محمد الذي يُعيل أسرة مكونة من خمسةِ أفراد، لـ "آخر قصّة" إنّه ومنذ ذلك الحين يعمل في أعمالٍ مختلفة بأجورٍ مُتدنية للغاية لم تتجاوز 25 شيقلاً يومياً، وبينما كان هذا الحاسوب يخدمه في عمله سابقًا فقد أصبح اليوم لا حاجة له به.

وأضاف الرجل بشيءٍ من الأسى، "الفقر أرهقني وجعلني غير قادرٍ على توفير الاحتياجات الضرورية لأسرتي؛ الأمر الذي أجبرني على بيع ذهب زوجتي، وبعد نفاد المال لم أجد حلاً سوى بيع أثاث المنزل واليوم اللاب توب".

الأسواق الشعبية ليست المكان الوحيد لعرض المواطنين أثاث منازلهم المستخدم للبيع؛ بل هناك عدّة نوافذ استخدمها الفلسطينيون لتحقيق ذلك، منها توظيفهم مواقع التواصل الاجتماعي كوسيلة للترويج لما يودون بيعه وباتت هناك عشرات الصفحات عبر فيسبوك وغيره متخصصة لهذا الغرض.

ومن هذه الصفحات عبر فيسبوك صفحة "سوق غزة (بيع وإشتري)" وينتسب إليها 77 ألف عضو، بالإضافة إلى مجموعة "سوق غزه العام (لبيع المستخدم والجديد)" التي ينتسب إليها نحو 160 ألف عضو.

فيما يشمل الأثاث المُباع الأدوات والأجهزة المُساعِدة للمرأة في أعمال المنزل والتي تصبح في أوقات الأزمات الحادّة غير ضروريةً أو تَرفاً لا حاجة له، مثل الغسالة الأوتوماتيكية والمكنسة الكهربائية وشاشات التلفاز؛ الأمر الذي أعاد الزوجات إلى الحياة "البدائية" وزاد من ثِقَل واجباتهن المنزلية.

وبحسبِ مالك نعيم المشرف على مجموعة "سوق غزة التجاري مستعمل وجديد" وينتسب لها أكثر من 130 ألف عضو، قال لـ "آخر قصة" إنَّ الأعضاء في مجموعته ينشرون نحو 60 منشور يومياً يعرضون فيها ما يرغبون في بيعه من أثاث أو مركبات أو هواتف نقالة أو ملابس أو شقق وغيرها. 

وبيّن نعيم أن التسوق الإلكتروني عبر مواقع التواصل وخاصّة فيسبوك، فيه مميزات خاصة للبائعين والمشترين على حدٍ سواء، إذ يتيح للبائعين عرض أثاثهم وما يرغبون ببيعه، دون الحاجة لنقلها إلى السوق الشعبي يوميًّا، كما يمنح المشترين فرصة التسوق والشراء دون الحاجة للذهاب إلى السوق، فضلاً عن إمكانية الحديث مع البائع والتفاوض معه.

ولا يقف الأمر عند بيع الأثاث أو المستلزمات المنزلية عامةً فقط، بل يشمل بيع الملابس أيّضًا، فهذه السيدة نور محمد (33 عامًا) نشرت منشورًا في صفحة سوق غزة للمستخدم والجديد تعرض فيه بعض من ملابس أطفالها للبيع.

تقول في حديثٍ مع "آخر قصة"، "الحاجة تدفعنا لبيع أي شيء سواء كان جديد أو مستخدم سواء كنا نرغب به أو لم نعد بحاجته، وكنت قد بعتُ سابقًا غسالتي عبر فيسبوك وأصبحت أغسل الملابس يدويًا".

تردف وقد بدا على صوتها حزيناً، "أعادتنا الأزمات المعيشية المُتلاحقة إلى العصر الحجري، على أيّة حال لم يعد للأدوات الكهربائية قيمة أو فائدة في ظلّ أزمة انقطاع التيار الكهربائي الفظيعة".

ويواجه قطاع غزة أزمة حادّة ومتواصلة في انقطاع التيار الكهربائي منذ 16 عامًا وإلى اليوم، وبحسب تصريحات حديثة للمتحدث باسم شركة توزيع كهرباء محافظات غزة محمد ثابت، فإن القطاع يحتاج بالمتوسط إلى 500 ميجا واط من الكهرباء يوميًا؛ الأمر الذي يُفسر وصول الكهرباء لبيوت الغزيين وفق جدول 8 ساعات وصل و8 قطع.

وتبدو المؤشرات الاقتصادية وفقًا للخبير الاقتصادي محمد أبو جياب، مخيفة إلى درجة تُشكِّل مُبرِرًا قويًّا لقيام المواطنين ببيع كل ما هو ليس في قائمة الأولوية والضروري من أجل كسب المال؛ ليتمكنوا من توفير احتياجات أُسرهم. 

وقال أبو جياب خلال حديثه لـ "آخر قصّة"، "إنَّ هذه الظاهرة ناجمة عن ظروف سياسية واقتصادية عديدة، من بينها الحصار الإسرائيلي والعدوانات على غزة، التي تسببت في خلق واقعاً معيشياً مأساوياً ودمرت القطاعات الاقتصادية والتنموية.

وإلى جانب ذلك، وفقًا لجياب فإنَّ حكومتي تعاني غزة ورام الله من أزمات مالية تجعلهما غير قادرتين على صرف رواتب الموظفين كاملةً، وإلى أن تُحَل كافة المشاكل السياسية والاقتصادية التي تسببت بهذه الأزمات المالية، يتوجب على المواطنين اتباع إجراءات تقشفية صارمة، والحرص على توفير أدنى المتطلبات الحياتية.