قيود السفر تنقص فرحة  مسيحي غزة بعيد الميلاد

يترحمون على أيام زمان

قيود السفر تنقص فرحة مسيحي غزة بعيد الميلاد

تجلس السيدة الثمانينية هدى سابا، على أريكة داخل بيتها وسط مدينة غزة، تراقب حفيدها منتصر (34 عاماً) وهو يجهز شجرة عيد الميلاد، وتطالب الأخير بعدم نسيان استخدام القطن عوضاً عن الثلج.

السيدة سابا، مسيحية من الطائفة الأرثوذكسية ولدت في غزة، وتعيش وعائلتها طقوس أعياد الميلاد المجيدة داخل القطاع، وتستثمر ذلك في شرح طقوس أعياد الميلاد قديماً وكيف كانت تسافر إلى الضفة الغربية، تتنهد مطولاً ثم تقول "ساق الله على أيام زمان".

بيد أن حفيدها منتصر، قال إنه كان يفضل أن يحتفل بالعيد في كنيسة المهد ببيت لحم، على أن يقضي الوقت هنا في غزة.

ويأتي هذا العيد في ظلِّ منع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، سفر 377 مواطناً مسيحياً من سكان غزة إلى الضفة، وذلك للوصول إلى الأماكن المقدسة في مدينتي القدس وبيت لحم والتي تفصلهم عنها بضع ساعات، للمشاركة في احتفالات عيد الميلاد المجيد، وفقاً للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.

ويتعارض حرمان المواطنين المسيحيين من السفر والوصول إلى أماكن العبادة لممارسة شعائرهم الدينية، مع العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وخاصة للمادة (18) التي تنص على حق كل إنسان في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في التعبد، وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم.

كذلك يعتبر حرمان المواطنين من ممارسة شعائرهم الدينية انتهاك للمادة (27) من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تؤكد على أنَّ للأشخاص المحميين في جميع الأحوال حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية، وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم.

أمام هذه الانتهاكات، تشير الأرقام إلى تناقص عدد المسيحيين في قطاع غزة، إذ كان يبلغ عام 2014 نحو 5 آلاف مسيحي، بينما يصل العدد هذا العام إلى 1027 مسيحيا، من مجموع سكان القطاع البالغ قرابة مليوني نسمة، وذلك في ظلّ الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية في القطاع.

ومن الواضح أن الحرمان من السفر، لم يقف عائقًا أمام المسيحين في غزة من الاحتفال بطقوس العيد، والتي تبدأ من الصلاة في كنيسة القديس بيرفيرويس بحي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة.

وعن هذه الطقوس قال الحفيد منتصر: "بعد صلاة العيد في الكنيسة، نهنئ بعضنا وكل منا يذهب لبيته لاستقبال الضيوف (..) عادة لا يمكنك تفريق المسيحي من المسلم خلال جلسة المعايدة فالجميع يهنئ الاخر ونتبادل الحلويات والكعك الذي تعده أمي وتُصر على إرسال بعض منه للجيران".

يشير منتصر إلى أنه يعقب استقبال الضيوف، زيارة الأرحام وتقديم العيدية وتوزيع الحلوى والهدايا على الأطفال، وقال ضاحكاً: "حتى أنا لا أتردد في أخذ العيدية من جدتي التي تحرص على تقديمها لنا جميعا".

وتحتفل الطوائف المسيحية التي تعتمد التقويم الغربي (من بينها الكاثوليك) بعيد الميلاد يوم 24 ديسمبر/كانون أول من كل عام، بينما تحتفل الطوائف التي تعتمد التقويم الشرقي (بينها الأرثوذكس) بالعيد يوم 7 يناير/كانون ثاني.

الأجواء ذاتها تعيشها نور عياد (32 عام) وهي مسيحية وأم لثلاثة أطفال تعيش في غزة، التي تحدثت عن طقوس عيدها، وقالت: "الاحتفال بالعيد ليس بتزين الشجرة فقط بل هناك أكلات تُطهى لاستقباله ومنها البربارة التي يطلبها منّا جيراننا المسلمين دوما رغم بساطة إعدادها فهي تتكون من القمح وتُزين بالحلوى والمكسرات؛ إلا أن مذاقها في العيد له نكهة خاصة".

ولاتزال صورة جيرانها المسلمين حاضرة في ذاكرتها وهم ينتظرونهم بعد عودتهم من الكنيسة لمعايدتهم، وتعلق ضاحكة "صحباتي كانوا بستنوا العيد ليأكلن البربارة والحلوى اللذيذة"، معلقة: وحتى اليوم حين تعد أمي البربارة التي تعلمت اتقانها من جدتي يكون النصيب الأكبر لأصدقائنا وجيراننا المسلمين.

ولأكلة البربارة حكاية مع "نور" منذ صغرها فقد كانت تنتظر وقت طهي جدتها لأبيها "فيرا"، حيث كانت الأخيرة تطهوها على "بابور الكاز"، وبمجرد أن تلمح الصغيرة المكسرات والحلويات التي تتزين بها الصحون، تلهي جدتها وتأخذ الكثير لها ولصديقتها اللواتي كن ينتظرنها.

تعلّق: "حين كنت صغيرة لم أميز هويتي الدينية، أو أشعر بفرق في شيء، حيث يعيش الجيران كعائلة واحدة والمناسبات جميعها مشتركة، حتى في رمضان وعيدا الفطر والأضحى جميعنا يتبادل الأطباق الشهية، وعندما كبرنا وفهمنا اكتسبنا احترام الآخر وعلمناه لأولادنا".

عائلة عياد هي إحدى العائلات المسيحية الكبرى في قطاع غزة وغيرها الكثير، أما تاريخيًا، فيعود تاريخ وجود المسيحيين في قطاع غزة إلى عصورٍ قديمة تمتد للقرن الرابع الميلادي، حيث كانت غزة واحدة من المناطق التي زارها الرومان قبل تحول الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية واعتمادها الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية في ذلك العصر.

أما حديثًا، نرى أنّ المسيحيون في القطاع يصنفون ضمن ثلاثة أقسام، فمنهم من كان يُقيم في غزة منذ القدم، وجزء آخر هاجر إليها إبان النكبة الفلسطينية عام 1948، وجزء أخير جاء مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات خلال عودته إلى غزة مع قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994.

ويحتفل هؤلاء المسيحيون الذين يتبعون لطائفتي الأرثوذكس والكاثوليك، بعيد الميلاد المجيد، وفق طقوسهم الموحدة. وبالعودة إلى السيدة "عياد" التي استذكرت لحظات العيد الآسرة في الصغر إذ كانت تشتري ملابس جديدة وتُعلّقهم على الخزانة، وتظلّ طيلة الليل تتفقدهم بلهفة كما يفعل صغارها اليوم.

وقد كان أكثر ما يُبهر السيدة عياد عند ذهابها للصلاة في الكنيسة هو الشجرة المُزينة بالكرات الحمراء، فيما هي تنتظر طيلة الوقت انتهاء الصلاة ليخرج عليهم بابا نويل يقدم الهدايا.

لكن عياد تفتقد اليوم زيارة بيت جدها لأمها في طولكرم، وقالت، "كنا نذهب للعيد هناك ونزور جدتي وأخوالي وعماتي الذين أصبحت أقضي العيد للعام الثالث بالاتصال عليهم ومعايدتهم على الهاتف فقط"، ورغم بُعد المسافات تحاول صنع جو من البهجة فتعايدهم وهي تقول "كل عام وأنت وعيدتك بألف خير"، فيردوا: عيديتك محفوظة حين تحضري مع أولادك. وتختم قولها "يوم العيد مميز للجميع لكن عيدي الحقيقي بوجود جيرانا المسلمين المهنئين لنا".