غزة: قانون "أثري" لا يحمي المباني القديمة من الانقراض!    

غزة: قانون "أثري" لا يحمي المباني القديمة من الانقراض!    

لا تزال العشرات من البيوت والمباني الأثرية التي أنشأت منذ العصر العثماني القديم وما قبله، قائمة إلى اليوم في قطاع غزة، بعضها تم إعادة ترميمه بفضل التمويلات الخارجية، وأخرى تنتظر موافقة ملاكها، وثالثة بحاجة إلى التمويل، لكنّ الأسوء هو إزالة بعضها بشكل كلي أو جزئي.  

مبنى مصبغة أبو رمضان القديم، أو ما يعرف ببناية "السوافيري" حاليًا، الواقع جنوب مسجد كاتب ولاية الأثري في حي الزيتون وسط مدينة غزة، واحد من المباني الأثرية المهملة، رغم أنه يسود اعتقاد بأنه يعود للعصر المملوكي.

تشير الروايات المحلية إلى أن هذا البيت استخدم كمصبغة للجلود، أما اليوم فهو عبارة عن مخزن لحَدْوَات الأَحصِنةِ، وتعرّضت خلال الفترة الأخيرة أجزاء منه للهدم، بخاصة أسواره الداخلية الشمالية، كما تم استبدال جزء من سقف المبنى باسمنت خرساني، رغم أن بنية المبنى قائمة على الطوب الطيني.

التغيرات التي طرأت على المبنى الأثري، أثارت حفيظة البعض، ودعت أحد المواطنين لتسجيل امتعاضه عبر فيسبوك مما حدث مستعرضاً واقع المبنى المتهالك بالصور. 

قد تكون صورة ‏حائط طوبي‏

المهندس محمود البلعاوي، وهو يعمل في مركز (إيوان) لعمارة التراث، وقد عاين المبنى خلال جولة ميدانية، أكد أن هناك حاجة ضرورية لإعادة ترميم المصبغة وبخاصة بعدما تراجعت حالته الإنشائية خلال السنوات الأخيرة. 

وانتقد البلعاوي استخدام المبنى في الوقت الراهن كمخزن، دون الاهتمام بترميمه والحفاظ عليه، على اعتبار أنه واحد من المباني الأثرية في مدينة غزة. 

تشير التقديرات إلى أنه يوجد في قطاع غزة 447 مبنى وهو مجموع المباني التاريخية التقليدية التي ما زالت موجودة، تملك مدينة غزة القديمة وحدها 417 مبنى تاريخي. 

ويعمل المهندسون في مركز (إيوان) وهو مركز للتراث ثقافي تابع لكلية الهندسة بالجامعة الإسلامية، تأسس قبل 22 عاماً، على رصد ومتابعة الحالة الإنشائية للمباني والبيوت الأثرية القديمة، خوفًا من أيّ تشققات قد تصيب المباني قد تشكل خطرًا على الجيران أو المارة، بالإضافة إلى متابعة أي عمليات تشويه وهدم أو إزالة للمباني.

لا يتوفر وصف للصورة.

قانون الآثار القديمة لسنة 1929 لا يمنح إيوان ولا غيرها من المنظمات المحلية أو الدولية، إمكانية إلزام مُلاك المباني القديمة في قطاع غزة بالحفاظ عليها، وهو ما تسبب بإزالة بعض المباني الهامة من قبل أصحابها وإكتشاف ذلك بعد إتمام عملية الإزالة، وفقا لما قاله البلعاوي.

وتنص المادة 18 من القانون لسنة 1929، في الفقرة (ج) على أنه "لا يجوز لأي شخص أن يهدم أي بناء تاريخي أو يزيل أي قسم منه دون إذن من مدير الدائرة".

في البلدة القديمة وسط مدينة غزة، مازال قائمًا 289 مبنى أثرى، بحسب توثيقات وزارة السياحة والآثار، منها ذات الملكية الخاصة والعامة، بعضها تم ترميمه وأخرى على قائمة الانتظار، فيما أن أصحاب تلك البيوت والمباني بحاجة للتوسع بسبب الأزمة السكانية والاقتصادية التي يمرون فيها.

يشير البلعاوي، إلى إنه قبل نحو شهرين من الآن، اتفق "إيوان" مع مالك المبنى في أعقاب جولة تفقدية، على ضرورة القيام بعملية إعادة الترميم، مبينًا أن المالك قد رحب بالطرح في إطار الملكية الخاصة.

لا يتوفر وصف للصورة.

بناءً على ذلك، وضع مركز التراث الثقافي المبنى ضمن قائمة المباني التي يسعى إلى جلب التمويل من أجل ترميمها والمحافظة عليها من الاندثار، لكن حتى الآن لم يتم الموافقة على أي عملية تمويل.

وقال البلعاوي في سياق حديثه لـ آخر قصة "جلب التمويل بحاجة إلى بعض الوقت، حيث جرت العادة عمل اتفاقية مع ثلاث جهات، المالك والممول وجهة التشغيل، وهي تركيبة معقدة بعض الشيء لأنها بحاجة لعمليات إقناع". 

ويوضح أنّ عملية الاقتناع، تعتمد في الأصل على إقناع المالك بالتدخل الفني والترميم من قبل متخصصين مقابل الاستفادة من المبنى كوظيفة اجتماعية، كون الممول يرفض عملية التمويل دون الاستفادة من المكان مجتمعيًا لعشر سنوات على الأقل، وهي العملية التي يقوم بها "إيوان" حاليًا.

تشكل عملية إعادة ترميم المباني والبيوت الأثرية القديمة في مدينة غزة، وعموم فلسطين أهمية تاريخية خاصة في ظل ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، حيث يوضح المؤرخ الفلسطيني وخبير الآثار حسام أبو النصر، أن المراكز  والمباني الأثرية التاريخية تمثل الحق التاريخي للفلسطينيين خلال العصور التي مرت على فلسطين، وتعتبر الشاهد التاريخي على الحكاية والتاريخ الفلسطيني بعد قدوم الاحتلال البريطاني أوائل القرن الماضي، ثم الاحتلال الإسرائيلي في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

ويضيف أبو النصر لـ آخر قصة المباني التي مازالت قائمة، تعود للعصر المملوكي والعثماني، وبعضها للعصر البيزنطي، بينما المباني من العصور الرومانية واليونانية غالبيتها اندثرت.

وينوه خبير الآثار إلى أنّ المطلوب حاليًا العمل من قبل المؤسسات الرسمية والأهلية للحفاظ وحماية المباني الأثرية التاريخية من الزوال، مشيرًا إلى أنّ المباني ذات الملكية الخاصة لا يتمكن على الأغلب مُلاكها من ترميمها، وهو ما يتسبب في اندثارها.

كما أبدى أبو النصر تخوفه من الاستعمال الغير صحيح لتلك المباني والتي قد يعرضها لخطورة الانهيار في أي وقت، "لذلك تقع المسئولية على وزارة السياحة والآثار والسلطة الوطنية الفلسطينية والمؤسسات والمراكز الأهلية لإعادة ترميمها، كونها ذات بعد تاريخي" كما قال. 

في المقابل، قال الدكتور حمودة الدهدار مدير منطقة البلدة القديمة الأثرية في وزارة السياحة والآثار بغزة: "قمنا بجولة ميدانية لمعاينة كافة المباني الأثرية في غزة، وأشعرنا مُلاكها بوصاية الوزارة على المباني منعًا لعمليات الإزالة أو التشويه، كما ثبتنا الوضع القائم لكل بناية أو بيت أثري من خلال توثيق حالته وتفاصيله، ومنحنا كل مبنى رقمًا خاصًا".

يشير الدهدار إلى أن وزارته تحاول القيام بدورها الرقابي الذي نص عليه قانون الآثار القديمة رقم 5 لسنة 1929 المعمول به في قطاع غزة حتى اليوم، إلا أنّه قانون بريطاني قديم عقوبات الردع فيه غير كافية وبحاجة إلى تعديلات تتناسب مع الواقع الحالي.

وتنص المادة 22 من القانون الذي شارف العمل به وسريانه على قرابة القرن، حول فرض عقوبات لمخالفي حماية الآثار القديمة على "يعتبر أنه ارتكب جرمًا ويعاقب بغرامة قدرها مائتا جنيه".

ويضيف "نواجه إشكالية كبيرة جدا مع التجار، خاصة الذين يحاولون استغلال البيوت الأثرية كون غالبية ورثتها بحاجة إلى بعض المال دون الاهتمام بمصير المبنى، وهو ما يدفعهم لبيعها بأثمان زهيدة لتجار هدفهم الإزالة وبناء مراكز ومباني تجارية". هذا بالإضافة إلى استغلال بعض المُلاك للعطل الرسمية الحكومية والتي قد يتوقف فيها النشاط الرقابي، من أجل إتمام عمليات الإزالة والهدم، وهو أمر دفع الوزارة وفقا لما قاله الدهدار إلى تشكيل شرطة خاصة تسمى "شرطة السياحة والآثار" لمتابعة التعديات من المخالفين للقانون. 

ويوضح مدير منطقة البلدة القديم في وزارة السياحة والآثار، أن بعض الاعتداءات على المباني الأثرية جاءت من جيران تلك المباني، بهدف الاستغلال والسرقة لقطع ونقوش رخامية، أو كنوز ذهبية ونحاسية مخبأة منذ القِدم، وبيعها لتجار آثار، وهو ما دفع الوزارة لتشكيل لجنة مختصة من أجل متابعة المباني ومحاولة الحفاظ عليها من أي اعتداء. 

في المحصلة، يتبين أن وزارة السياحة لا تنفق أموالاً على عملية إعادة الترميم، بينما تعتمد على الجهود الدولية القائمة على حفظ وحماية التراث، فيما أن القانون بات عاجزًا عن تلبية احتياجات الوقت الحالي. النائب في المجلس التشريعي "محمد فرج الغول" ومسؤول اللجنة القانونية، أكد على أن القانون المعمول به حاليًا قديم وبحاجة إلى تطويره، خاصة فيما يتعلق بمسألة فرض العقوبات على المخالفين، حتى تكون رادعة، بحسب وصفه.

وقال الغول في سياق حديثه لـ آخر قصة، "نحن بالفعل لدينا مشروع قانون للآثار قُدم للمجلس التشريعي عام 2019، وموضوع على جدول الأعمال للمناقشة، ولكن هناك قضايا أكثر أولوية لأنها تمس الشارع وتمس حياة الناس المباشرة، وسيتم المناقشة بالتدريج"، منوهًا إلى أهمية تحديث وإقرار قانون الآثار كأولوية في الفترة القادمة، لكنه لم يحددها المجلس بعد.