غزة: فيروس كورونا أكل الوقت وترك أثاره على أظافر الشباب

غزة: فيروس كورونا أكل الوقت وترك أثاره على أظافر الشباب

ثلاثة أشهر مرت منذ إعلان الإغلاق في قطاع غزة بسبب تفشي فيروس كوفيد 19، ولا يزال الشاب عُمر (اسم مستعار) يواظب على قضاء ساعات النهار نائماً، رغم توصيات والدته بضرورة الكف عن هذه الممارسة التي ترى فيها إنهاكاً للصحة الجسدية.    

يجلس عُمر (29 عاماً) على كرسي خشبي كان قد صنعة قبل الأزمة على سطح منزل مكون من دورين في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزو، حاملاً في يده هاتفاً ذو شاشة محطمة، وتلازمه في هذه الفترة عادة قضم أظافره بشكل لا إرادي.

انقطع التيار الكهربائي على رأس الساعة التاسعة مساءً وفقاً لجدول وصل يستمر ثمان ساعات يومياً -يحفظه عمر ومعه سكان المخيم البالغ عددهم 103 ألف نسمة- عن ظهر قلب. هم عُمر لجلب كاشف ضوئي يعمل بالبطاريات، بينما ظل كوبليه أم كلثوم متواصلاً "وابتدى الليل يبقى أطول من ساعاته".

رغم الهالات الداكنة التي صبغها السهر تحت عينيه، إلا أنه يقول إنه متيم بأغنيات كوكب الشرق فهي تعينه على السهر، مع حرصه على إبقاء كوبٍ ملآن بالقهوة إلى جانبه. ويضيف قولاً مختلطاً بالجد والهزل "أحب دائماً النظر إلى النصف الملآن من الكوب". يعتدل في جلسته ويتوقف عن قضم أظافره ويقول: "هذان رفيقا الليل"، في إشارة إلى أم كلثوم والقهوة.

كان عُمر يعمل في مقهى بعدما عجز عن الحصول على وظيفة في العلوم المالية والمصرفية، ويحصل على أجر زهيد يعيل به طفليه وزوجته، وقد أصبح يعاني من اكتئاب وقلق شديدين، منذ إعلان الحكومة التي تديرها حركة حماس في غزة عن الإغلاق الكامل للمنشآت التجارية والسياحية والعامة، للحد من تفشي الفيروس.

يتحدث عُمر المكنى بـ(أبو ياسر) عن تجربة الحجر المنزلي قائلاً: "في بادئ الأمر كنت أظن أن الوقت سيمر وستنتهي الأزمة خلال أسبوع أو اثنين على الأكثر، بينما نحن الآن تجاوزنا الأربعين يوماً داخل بيوتنا، وليس لدي أي مصدر للدخل، ولا يمكن لطفلين لم يتجاوز أكبرهما الثلاثة أعوام أن يتفهم عجزي عن توفير الحليب والحفاظات".

وأضاف مرتكزاً على ركبته "أرباب العمل لا يفكرون مطلقاً في التكافل الاجتماعي، ولا حتى المؤسسات الرسمية والأهلية.. هم يتركوننا في مواجهة الفقر فحسب"، مشيراً إلى أن ظروفه الاقتصادية انحدرت بفعل جائحة كورونا من العيش على الكفاف إلى الجوع.

يعترف عُمر، بأن ظروفه النفسية ليست أفضل حالاً من ظروفه المعيشية، إذ يتعمق داخله شعور بالقلق نتيجة العجز عن توفير احتياجات أسرته، التي تتلقى معونات دورية من الوكالة الأممية (الأونروا) فقط، على حد تأكيده.  

 يتجاوز الشاب حاجز خجله بالتعبير الواضح عن مستوى الاضطراب النفسي الذي يعانيه، على ضوء عدم القدرة على مغادرة المنزل خشية من الإصابة بالفيروس. قال عُمر: "لقد أصبحت أفتعل المشاكل بشكل متواصل مع زوجتي وأصرخ نتيجة مواقف لا تستحق، ولم اعد احتمل حتى سماع صوت أطفالي، فكرة أن تكون أباً وأنت عاجز عن أن تشكل مأمن لأطفالك وزوجتك، هي فكرة مؤذية".

يبدي عُمر الذي يبحث عن فرصة للهجرة، استياءً كبيراً من الظروف الحياتية المحبطة، لاسيما في ظل انعدام فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة، فيما يبدي أسفاً أكبر على الوقت الذي يمضي دون إحداث أي تغيير إيجابي على نمط الحياة المعاش تحت الحصار الإسرائيلي، وقيود الإغلاق للعام الرابع عشر على التوالي.   

إلى جانب عُمر، يعاني نحو 160 ألف عامل، كانوا يتقاضون أجوراً يومية، ظروفا معيشية ونفسية قاسية نتيجة التوقف عن العمل بفعل الجائحة. وعلى أثر ذلك انحدرت مستويات الفقر والبطالة إلى دِرك غير مسبوق، إذ بلغت نسبتها في صفوف الشباب 63% وفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، في حين يعتمد أكثر من 80% من السكان على المساعدات الإغاثية المقدمة من الجهات الدولية والمانحة.

وحتى هذه اللحظة لم تصدر أي من الجهات الرسمية والأهلية، أي إحصاءات عن التداعيات النفسية التي الناتجة عن كورونا، غير أن المختصين يؤكدون تأثير الظروف الحالية على الصحة النفسية للمجتمع عموماً وعلى الشباب بوجه خاص.

وبالعودة عامين إلى الوراء، فإن إحصاءات صادرة عن برنامج غزة للصحة النفسية، تظهر ارتفاعا ملحوظا في أعداد الأشخاص البالغين الذين يعانون من الاكتئاب والاضطراب وتناول العقاقير، ولا تشمل تلك الإحصاءات الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب والاضطرابات، لكنهم لا يتوجهون إلى مراكز العلاج.
تفيد إحصاءات البرنامج أن 22% من الذين زاروا مراكز الصحة النفسية خلال عام 2017 مصابون بالاكتئاب، فيما وصلت نسبة الذين يعانون من اضطرابات القلق 26 %، بينما وصلت نسبة الاضطرابات نتيجة استخدام العقاقير إلى 21 %، ذلك نتيجة الأوضاع المعيشية الصعبة التي تراكم العبء الاجتماعي والاقتصادي على الأسر الفلسطينية.

ترددت الشابة هدى (اسم مستعار) قبل الحديث عن الحالة النفسية التي تمر بها في ظل الحجر الإلزامي. لكنها استجابة وأفصحت عن مشكلتها قائلةً: "إنني أواجه قلقاً كبيراً يصعب وصفه نتيجة وسواس النظافة الناتج عن الخوف من الإصابة بالفيروس أو تعرض أي من أفراد عائلتي لأذى".

تشير هدى (25 عاماً) وتعمل في حقل التعليم، إلى أن التدفق الهائل في المعلومات المغلوطة عن الفيروس تسببت في تضخم حالة الخوف بداخلها وأوقعتها فريسة للوساوس، مبينةً أنها لا تزال تقضي الكثير من الوقت في غسل اليدين، رغم خضوعها لعلاج سلوكي معرفي عبر الخط الساخن، الذي توفره إحدى المؤسسات المعنية بالصحة النفسية في قطاع غزة.

وتقول الشابة التي استجبنا لرغبتها بعدم إعطاء أي أوصاف أو ايحاءات ترمز إلى شخصيتها: "لازلت أخشى التعرض للأذى وأخشى كذلك على أسرتي، لكن ليس بالدرجة التي كنت عليها خلال الأسابيع الثلاثة من الأزمة (..) عندما شعر أهلي بالاضطراب الذي أمر به والقلق المتواصل، ساعدوني في محاولة التخلص منه عبر إحدى الجهات المعنية بتقديم المساعدة النفسية والاجتماعية".

توضح هدى أن التعطل عن العمل خلال هذه الفترة، شكل عاملاً مساعداً لتردي الأوضاع النفسية التي مرت بها، مؤكدةً أن العمل يشغل الإنسان عن التعمق في الأفكار السلبية ويحد من تركيزه في مسببات القلق والتوتر والأرق والعجز عن النوم. 

واعترفت في الوقت نفسه، أنها أصبحت تخجل من نفسها نتيجة قضم أظافرها بشكل لا إرادي، وأنها لا تعي خطورة الأمر إلا بتنبيه أحد أفراد أسرتها بالكف عن هذا الفعل.  

ويبدو واضحاً، أن الأثر النفسي للجائحة بدأ يحول البيوت إلى قنابل موقوتة، كما تصفها السيدة "منال" وهي أم لخمسة أفراد وتقطن محافظة شمال قطاع غزة.

تقول الأم، إن أبنيها اللذان تجاوزا الـ(18)، أصبحان مصدر للقلق الدائم داخل البيت، وبخاصة بعدما أقدم أحدهم على ضرب الآخر بالعصا وشج رأسه نتيجة شجار حصل داخل غرفتهما، مؤكدةً أنه لم يسبق أن حدثت مثل هذه السلوكيات داخل البيت قبل الجائحة.

ونفت الأم قدرتها على السيطرة على سلوكيات الأبناء اللذان يتلقيا تعليماً جامعياً، نتيجة التوتر العصبي الذي تمر به في ظل عجز أبيهما المريض عن العمل وقضاءه ساعات طويلة خارج البيت هرباً من سوط الحاجة، حتى أثناء فرض الحجر الإلزامي.  

تقول السيدة منال وهي تغطي وجهها بقناع طبي: "أحياناً أشعر أن لدي وحشين تزداد انفعالاتهما بشكل يومي داخل البيت"، مرجعة ذلك إلى حالة الفقر التي تمر بها الأسرة والتي تحرم أبنيها من التسجيل للفصل الدراسي الجديد، فضلاً عن الظروف الحياتية غير الملائمة كانقطاع التيار الكهربائي، وانعدام التهوية الناتج عن ضيق المسكن. 

تضيف الأم: "بين الحين والآخر أدخل الغرفة حتى اتفقدهما، فأجد كل منهما يحمل هاتفه منعزلاً ويقلب شاشته بين يديه، وهو مشهد مناقض لحالة الألفة والتقارب التي كانوا عليها قبل انتشار فيروس كورنا". 

أمام هذا الواقع، يتوقع الدكتور إسماعيل أبو ركاب وهو أخصائي نفسي وباحث في السلوك اللا توافقي لدى فئة الشباب، أن يكون فيروس كورونا قد أحدث اضطرابا نفسياً أكثر قسوة من أماكن أخرى من العالم، ذلك بفعل انعدام الأفق السياسي والاقتصادي فضلا عن العدوان المتكرر والحصار والأزمات التي سبقت انتشار الجائحة بسنوات، وعطلت كافة مناحي الحياة.

وقال أبو ركاب: "كافة الأزمات التي سبقت الجائحة لم تستطع أن تفرض على الناس هنا أن يستمروا بالبقاء تحت سقف واحد طيلة هذا الوقت، بينما أجبر فيروس كورونا السكان على المكوث داخل المكان ومع نفس الأشخاص لأيام طِوال، وهذا ما أسهم في خلق الشعور بالملل والرتابة، الأمر الذي أحدث انعكاسا سلبياً على الصحة النفسية للأفراد".    

وتابع قوله "فئة كبيرة من الشباب وجدوا أنفسهم في وضع مالي صعب، ما أحرجهم أمام أنفسهم وأمام أسرهم، وهذا الأمر قد خلق مشاكل عائلية وضاعف حدة توتر العلاقات داخل الأسر وضاعف المشاكل النفسية".

ولأنه من المعروف، وفقاً للأخصائي النفسي، أن الشباب دائماً هم الأكثر شعوراً بالحرية، فإنهم وجدوا أنفسهم فجأة ومن دون مقدمات رهيني الحجر الشامل، مبيناً أن هذا التغير الطارئ على النمط الحياتي خلف ضغوطات على الصحة العقلية للأشخاص.

عليه، شدد أبو ركاب على أهمية أن تتدارك الجهات الرسمية والأهلية خطورة الاضطرابات النفسية الناتجة عن انتشار الجائحة، وبخاصة على فئة الشباب، من خلال البدء بالتعايش مع الفيروس، إلى جانب تشكيل بيئة حاضنة لدعم ومساندة هذه الفئة على المستوى النفسي. 

وقال: "على الجهات المختصة أن تسعى جاهدة من أجل التخفيف من الآثار السلبية المترتبة على الحجر الإلزامي"، مؤكداً أن التواصل الالكتروني لا يمكن أن يحل محل التواصل الوجاهي.

وأوصى الشباب حتى الفقراء منهم، بأهمية ممارسة الرياضة داخل المنزل من أجل تفريغ الكثير من المشاعر السلبية، فضلاً عن ضرورة التواصل مع الآخرين وبخاصة الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة ودية لأجل التعبير عن مشاعر القلق والخوف والأفكار السلبية التي تراودهم، بالإضافة إلى استشارة المختصين عند الشعور بالانفعالات والاضطرابات الخارجة عن السيطرة.

وقال الباحث في السلوك اللا توافقي لدى فئة الشباب: "من المهم أيضاً أن يعي الشباب أن التخطيط اليومي والأسبوعي لما يمكن أن يقوموا به داخل الحجر، يمكن أن يساعدهم في تحسين ظروفهم النفسية والتخلص من حالتي القلق والاكتئاب، ويفتح لهم نافذة على المستقبل".