ماذا ينتظر مرضى القلب والسرطان في غزّة؟

ماذا ينتظر مرضى القلب والسرطان في غزّة؟
عمر موسى- متراس

بعد قرابة ثلاثة أشهر من تسجيل أولى الإصابات بفيروس "كورونا" في غزّة، تخطّت مؤخراً أعدادُ الإصابات المُسجّلة يوميّاً منحنى السيطرة الذي وضعتهُ وزارةُ الصحّة في غزّة للوباء، وهو 250 حالة يومياً. في اليومين الأخيرين سُجّلت إصابات يوميّة تتعدى الـ600 حالة.

يُشكّل هذا التصاعد تحدياً مضاعفاً للقطاع الصحّي في غزّة، ويُهدّد الخدمة الطبيّة التي يحتاجها المرضى العاديون في القطاع، وبالأخصّ مرضى القلب والأورام والأمراض المزمنة. ليست "كورونا" المتهم الوحيد، فسياسات الحصار الإسرائيليّ وتقييد خروج المرضى من القطاع، إضافةً إلى ضعف الميزانيات ووقف التحويلات التي تخصصها وزارة صحّة رام الله لقطاع غزّة يزيدان الأمر تفاقماً.

كورونا من جهة.. والحصار من جهة

تعاملت وزارةُ الصحّة في غزّة مع المرحلة الأولى من انتشار "كورونا" ببعضٍ من الإرباك. بالنسبة لها كانت الأولوية القصوى هي متابعة تطورات الوباء وذلك على حساب المرضى الآخرين. منذ تسجيل الإصابات الأولى نهاية شهر أغسطس/آب الماضي، وضمن خطّة العمل في ظلّ الوباء، أغلقت الوزارةُ العياداتِ الخارجيّةَ في المستشفيات الحكوميّة التابعة لها، وحدّدتْ بروتوكولات الطوارئ للعمل فيها، ما أدّى إلى تعطيل متابعة المرضى العاديين لحالتهم.

ضمن هذه الخطّة، أغلقت الصحّة بغزّة مركزاً تابعاً لها لعمليات القسطرة القلبيّة  في المستشفى الأوروبيّ، واكتفت بالعمل بجهازٍ واحدٍ في مستشفى الشّفاء. أدّى هذا الإغلاق إلى تعطيل العمليات المجدولة لمرضى القسطرة القلبيّة، واقتصار العمل على الحالات الطارئة. 

من ناحية ثانية، أوقفت دائرة العلاج بالخارج، والتابعة لوزارة الصحّة في رام الله، منذ حوالي ثلاثة أشهر التحويلات المُقدّمة لتغطية عمليات المرضى في المستشفيات الخاصّة (داخل غزّة). كما انخفض بدرجة كبيرة حجم التحويلات إلى المستشفيات الإسرائيليّة خاصّة بعد إعلان السّلطة في مايو/أيار الماضي "وقف التنسيق"، عدا عن رفض الاحتلال إعطاء تصاريح العلاج لكثيرين. وفق مكتب منظمة الصحّة العالمية في غزة، فإن حوالي 1700 مريض قدّموا تصاريح للعلاج الطبيّ خارج غزّة خلال هذا العام، لم يحصل سوى ربعهم على ذلك.

من ينقذ تلك القلوب؟

تُعدُّ أمراضُ القلب المُسبِّبَ الأوّل للوفاة في التقرير السنويّ الصادر عن وزارة الصحّة هناك لعام 2019. في العام الماضي بلغت حالات الوفاة الناتجة عن أمراض القلب حوالي 49.6% من إجمالي الوفيات، تليها أمراضُ الأورام بنسبة 10.3%.

وفقاً للطبيب محمد حسين حبيب، رئيس قسم القلب والشّرايين في مُجمع الشفاء الطبيّ، تُسجّل في غزّة 7 آلاف حالة سنويّاً بحاجة لعملية قسطرة قلبيّة (سواء جراحيّة أو تشخيصيّة)، منهم 120 طفلاً. وفي القطاع ستةُ أجهزة خاصّة بهذا النوع من العمليات؛ اثنان منها لدى المستشفيات الحكوميّة (مستشفى الشفاء والمستشفى الأوروبيّ)، أربعة في المستشفيات الخاصّة والأهليّة. والأخيرة يجري التحويل إليها عبر دائرة العلاج بالخارج المُدارة من وزارة الصحّة برام الله.

قبل أغسطس/آب الماضي كانت المراكز الستة تجري ما يتراوح بين 25-30 عملية قسطرة يوميّاً بمجموع يتراوح بين 400-500 عملية شهريّاً، وبمعدل 7 عمليات يوميّة في كلّ مستشفى، حكوميّ أو خاصّ. 

لكن، منذ بدء تفشي الوباء فإنّ هذه العمليات لا تُجرى إلا في مستشفى الشفاء وحده، وذلك بمُعدل 8 عمليات يوميّة وللحالات الطارئة فقط. خلال الأشهر الثلاثة الماضية لم يتجاوز مجموع عمليات القسطرة في "الشفاء" 160 عملية فقط. 

عن ذلك يقول حبيب: "في ظلّ خفض العمل في العيادات والرعاية الأوليّة وغرف العمليات، قد يجري تأجيل العمليات المجدولة لتاريخٍ غير محدد يصل لـ6 أشهر، وهذا خطير جداً". يحتاج مرضى القلب إلى تدخلٍ سريع، فمعظم حالات القلب والجلطة والذبحة الصدريّة الحادّة تحتاج لقسطرة خلال ساعة أو ساعتين بحدٍّ أقصى. 

كذلك ثمة نقص في الكادر الطبيّ الخاصّ بأمراض القلب. يُقدّر حبيب عدد أطباء القلب الموجودين في قطاع غزّة بحوالي 2.5 طبيب قلب لكلّ 100 ألف شخص، فيما الحدّ الأدنى المقبول عالميّاً هو 6 أطباء قلب لكلّ 100 ألف نسمة.

أمام هذا الواقع، لا يملك مرضى القلب أيّ خيارٍ آخر سوى انتظار دورهم "المؤجل" في المستشفيات الحكوميّة. أما المستشفيات الخاصّة فليست خياراً مطروحاً إلا أمام المُقتدرين، وذلك بعد وقف التحويلات عليها من صحّة رام الله. وبدون التحويل، تُكلّف عملية القسطرة القلبيّة في المستشفيات الخاصّة مبلغاً يتراوح بين 1500-2000 دولار بالحدّ الأدنى، وهو ما لا يقدرُ عليه كثيرٌ من المرضى.

ويقول الطبيب حبيب إنّه من خلال متابعته للأرقام، تبيّن أنه في الفترة ما بين نهاية أغسطس/آب ومطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2019، كان عدد من تعرضوا لذبحات صدريّة 73 حالة، والوفيات نتيجتها صفر. في نفس الفترة الزمنية ولكن لعام 2020، سُجلت 26 حالة ذبحة صدريّة، وارتفعت نسبة الوفيات إلى 4%. يستنتج حبيب من ذلك أنّ هناك نقصاً في دخول حالات الذبحة الصدريّة للعمليات في الوقت المناسب وذلك بنسبة 64%.

أمراض الأورام .. قصة أخرى

في ظلّ هذا الوضع يعيشُ كذلك ما يقارب 1600 مريض بمختلف أنواع الأورام السّرطانيّة حالَ مرضى القلب، ولكن على نحوٍ أكثر سوءاً، فالخدمة الطبيّة المُتاحة لمرضى الأورام في غزّة أصلاً محدودة جداً. 

يعتمدُ القطاع في ملف الأورام على التحويلات خارج القطاع بالدرجة الأولى، وإثر تخفيض التحويلات إلى حدّ كبير بعد إعلان السلطة في مايو/أيار الماضي وقف التنسيق الأمنيّ والمدنيّ مع الاحتلال، وتشديد الأخير الإغلاق منذ بداية شهر مارس/آذار الماضي على غزّة، بحجة وباء كورونا، زادت معاناة المرضى. 

يُقدّر الطبيب محمد أبو ندى، مدير مستشفى الرنتيسي التخصصيّ في غزّة، أنّ القطاع يُسجّل شهريّاً ما بين 80-100 تشخيص لحالات جديدة مصابة بالسرطان، وبحسب وزارة الصحّة هناك فإنّ نسبة الإصابة بالسرطان هي 90 حالة لكل 100 ألف سنويّاً. يواجه أولئك وغيرهم من المرضى السابقين مصاعبَ في إجراء اختبارات تشخيص وعلاج المرض، لغياب الأجهزة التشخيصيّة والعلاجيّة اللازمة. 

على سبيل المثال يمنع الاحتلال بحججٍ أمنيّة إدخال جهاز الماسح الضوئيّ PET/CT المستخدم في تشخيص السّرطان إلى غزة، ويمنع كذلك الأجهزة الخاصّة بالعلاج الإشعاعيّ الذي يحتاجه 40% من مرضى الأورام، وهي غير متوفرة بتاتاً في القطاع، بحسب أبو ندى.

لا يبقى أمام المرضى سوى العلاج الكيماويّ والبيولوجيّ، لكنه لا يتوفر أيضاً بشكلٍ كامل في غزّة. وهناك أصناف من الأدوية غير متوفرة في صيدليات الوزارة على الدوام، إما نتيجة الخلاف المستمر بين وزارتي الصحّة في غزة ورام الله، أو لثمنها المرتفع وعدم توفرها في مستشفيات الضفة وغزة. في نهاية شهر أبريل/نيسان 2020، كان 54% من أدوية الأورام في مستودع الأدوية المركزيّ بغزّة يكفي لفترة تقلّ عن شهرٍ واحدٍ.

عدم توفر هذه الأصناف، يبطئ من عملية المعالجة ويُبقي المريض دون الاستفادة الكاملة. يعطي أبو ندى مثالاً ويقول: "يوصي الأطباء للمريض بأربعة أدوية، في حين لا يتوفر من هذه المجموعة في غزّة، سوى اثنان أو ثلاثة أنواع".

في أبريل الماضي، تعاقدت وزارة الصحّة في رام الله مع مستشفى الحياة التخصصي (خاصّ) لتقديم العلاج الكيماويّ لمرضى السّرطان في غزّة، بدلاً من تحويلهم للعلاج في مستشفى المُطلع في القدس. 

لكن حتى هذا البديل الذي وجدته السّلطة في رام الله كافياً لا يُغطي سوى حاجة 30% من مرضى القطاع، وفق حديث مدير دائرة العلاج بالخارج في غزّة مازن الهندي (تابع لصحّة رام الله). فيما تقول إدارة المستشفى إنّ السّلطة لم تفِ بجميع التزاماتها الماليّة تجاهه وإنّها راكمت مبالغ مستحقة عليها بقيمة 50 مليون شيكل.

يؤدي العلاج الكيماوي إلى الإضرارٍ بمناعة مرضى الأورام، وهذا مؤشر صعب في ظلّ الوباء. يشير أبو ندى إلى أن الخطر الأساسي على حياة مرضى الأورام في غزّة هو وقف التحويلات الخارجيّة إلى مستشفيات الضفة ومستشفيات الاحتلال، لعدم توفر العلاجات المناسبة (الإشعاعية خاصةً) إلى جانب بعض العمليات الجراحيّة المتخصصة، وهو ما قد يدخل مرضى الأورام في حالة غير معروفة النتائج.

نقص مزمن في الأجهزة الطبية

كذلك تفتح الأزمة التي يعيشها مرضى القلب والأورام في ظلّ وباء "كورونا" الحديثَ مجدداً عن قدرة القطاع الصحّي في غزّة، وتجهيزات المستشفيات. 

يشير أحمد شتات، مدير دائرة الأطباء بوزارة الصحّة في غزّة، إلى أنّ المستشفيات في غزّة تفتقر إلى الأجهزة الطبيّة الخاصّة بمجالاتٍ رئيسية كأمراض الأورام والقلب والأمراض المزمنة الأخرى. 

كذلك تفتقر المستشفيات لأجهزة رئيسية كالتصوير المقطعي (السي تي)، والأجهزة اللازمة في الجراحات الدقيقة، مثل جراحات المسالك، وجراحات الأطفال، وجراحات الدماغ والأعصاب والعيون، ومناظير المسالك والقنوات المرارية، وجراحة الرقبة. يعاني قطاع الصحة في غزة من نقصٍ حاد في الأجهزة الخاصة بهذه المجالات، ويضطر المرضى إثر عدم توفرها إلى انتظار تحويلاتٍ خارجية والسفر خارج القطاع.

كذلك، يُمثِّلُ نقصُ الأسرّة، وبالتحديد أسرّة العناية المكثّفة، عثرةً كبيرةً في طريق معالجة الأزمة بحسب شتات. في تقرير وزارة الصحّة لعام 2019، ورد أن مستشفيات غزّة، الحكوميّة والخاصّة، تضمّ 3049 سريراً، أي بمعدل 15.1 سريراً لكل عشرة آلاف شخص. وبحسب شتات، هناك حاجة إلى 1700 سرير إضافيّ وأسرة عناية إضافية على وجهٍ خاص، لتحقيق الحدّ الأدنى المطلوب قياساً بعدد السكان.

وقف التحويلات للمستشفات الخاصة.. إنهاك المُنهك

أمام أزمات الصحّة، لجأت حكومة غزّة للبحث عن جمعياتٍ خيريّة ومؤسساتٍ إغاثيّة في محاولة لإنقاذ الأمور، لكن ذلك يصطدم بسياسة الاحتلال الذي يمنع ويسمح بدخول ما يريد إلى غزّة، بالإضافة إلى معضلة أخرى وهي عدم ديمومة الهبات الإغاثيّة.

أما السّلطة في رام الله، فقد أخضعت قطاع الصحّة إلى ساحة الخلاف مع حركة "حماس". في أبريل/نيسان 2017، فرضت السّلطة إجراءاتٍ عقابيّةً على غزّة عبر تقليص التحويلات الخارجيّة لمرضى القطاع. وهكذا بلغت التحويلاتُ الخارجيّة المُقدمة لغزة لعام 2017، 20,589 تحويلة، بعد أن وصلت عام 2016 إلى 24,514. 

ومنذ الأول من يونيو/حزيران 2017، وحتى يونيو/حزيران 2018، سُجّلت وفاة 16مريضاً في غزّة، بينهم 11 طفلاً، بفعل إجراءاتٍ متعلقة بغياب التحويلات أو تأخرها. كما أدّت هذه الإجراءات العقابيّة إلى تقليص توريد المستلزمات الطبيّة إلى القطاع.

وفي 2020، أعادت السّلطة الكرة عندما أوقفت دائرة العلاج بالخارج المدارة من وزارة الصحّة برام الله، منذ بدء أزمة "كورونا" التحويلات إلى العيادات والمستشفيات الخاصّة داخل غزّة، خصوصاً التحويلات الخاصّة بمرضى القلب، وأبقت على هذه الخدمة في الضفة الغربيّة. نفى الهندي ذلك، وقال إن الخدمة لم تتأثر في ظل الوباء، وأنّ عملّ دائرة العلاج بالخارج "لا يُفاضل بين المرضى"، في حين ردّ حبيب بالقول إنّ "الدائرة ترفض الموافقة على أي تحويلة للمرضى منذ 3 أشهر".

حتى في ظل جائحة "كورونا"، تتضاعف تحديات القطاع الصحّي في غزّة، وتُضاف إلى هموم النّاس هموم أخرى في ملاحقة حقّهم بالعلاج، فيما لا تمانع السّلطة في وقف التحويلات حتى لو كان الثمن خطف أرواح المرضى.