غزة: تفتيت ركام العدوان

غزة: تفتيت ركام العدوان

منذ إعلان سريان التهدئة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل في العشرين من أيار/مايو، دأب السياسيون الفلسطينيون على إلقاء خطابات رنانة في المهرجانات الشعبية، في الوقت الذي بدأ المواطنون الذين دُمّرت بيوتهم بدقّ أوتاد الخيام، إيذاناً بدخول مرحلة جديدة من التشرد.

يلقي السياسيون تصريحاتهم البراقة لتحفيز الناس على الصمود، بينما يلجأ المكلومون إلى إشعال ما تبقى من أثاثهم للتدثر من لسعات البرد الليلية، ويتضخم الخوف في قلوب الأطفال الذين عانوا ويلات القصف، بينما يضرب أصحاب المنشآت الصناعية المدمرة كفاً بكف على ما حل بهم من خراب.  مشهد يبدو أنه جاء ليجسد حقيقة بيت الشعر القائل "لا يؤلم الجرح إلا مَن به ألم".

آلام كبيرة في نفوس ضحايا العدوان، ومخاوف جمة تحتشد جميعها في صدور السكان، بدءاً من ضبابية فرص إعادة الإعمار، وغياب ملف التعويضات الاقتصادية الناجمة عن تدمير المنشآت، وتجاهُل معاناة السكان النفسية، وخصوصاً الأطفال، وهو ما يمكن أن يدفع إلى السؤال: ماذا عن إعادة إعمار الإنسان؟

ثلاث محطات رئيسية ومفصلية تستوجب الوقوف عندها ملياً:

أولاً: المنشآت السكنية

يُثار العديد من التساؤلات عن مستقبل إعادة الإعمار، إذ دُمِّرت 1500 وحدة سكنية كلياً، و1500 وحدة أُخرى لحقت بها أضرار، بحيث يستحيل ترميمها، إلى جانب 17 ألف وحدة لحقت بها أضرار جزئية. وجميع سكان تلك الوحدات المقدّر عددهم بأكثر من 100 ألف مواطن بدأوا الآن مرحلة جديدة من الصراع على المأوى.

لا يزال الشك يساور المواطنة جيهان السلطان في إعادة بناء مسكنها -الذي دمره القصف شمال قطاع غزة خلال الأيام الستة الأولى للعدوان- في وقت قريب. وتقول: لم ننجُ سوى بأوراقنا الثبوتية.. شقاء العمر قد ذهب، ولا نعلم ما إذا كنا سنحصل على تعويضات أم لا".

تضيف جيهان (42 عاماً): "لا تزال عمليات حصر الأضرار متواصلة، بينما ليس هناك حديث جدي على أرض الواقع بخصوص الإعمار، وما دام ليس في مقدورنا استئجار مسكن بديل، فالفرصة الوحيدة أمامنا الآن هي الإقامة في هذه الخيمة إلى أجل غير مسمى".

أحمد أبو نحل، الذي فقد شقته السكنية بفعل قصف شقة ملاصقة في ذات المبنى الواقع وسط مدينة غزة، لا يبدو أحسن حالاً، إذ اضطر إلى النزوح بأطفاله الثلاثة إلى مسكن العائلة في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة.

يقول أبو نحل: "ما من حل أمامنا الآن إلّا انتظار قرار البدء بالإعمار، وليس هناك أي بوادر إلى الآن بشأن هذه القضية، لذا نتمنى على الجهات الرسمية أن تسارع إلى تعويض المتضررين، حتى يتمكنوا من العودة إلى مساكنهم، وإلى حياتهم الطبيعية".

يترافق ارتفاع أسهم بورصة إعادة إعمار قطاع غزة بعد إعلان كلّ من مصر وقطر والكويت واليابان التبرع لإعادة بناء المساكن والبنى التحتية بأكثر من مليار ومئة مليون دولار، غير أنه لا حديث إلى الآن عن تحديد آليات البدء بإعادة الإعمار، على الرغم من الجولات السياسية المكوكية لتثبيت قواعد التهدئة، والتي كان من البديهي أن تكون ضمانات ملف الإعمار من دعائمها الأساسية.

خياران أحلاهما مُر أمام النازحين الآن، الأول هو اللجوء إلى استئجار مسكن، وبالمناسبة هذا أمر ليس بالسهل لأن متوسط قيمة الإيجار الشهري لمسكن متوسط الحجم في غزة 200 $، مبلغ يصعب توفيره لدى الأغلبية في مجتمع يعاني بطالة بنسبة تتجاوز الـ 60%، وفق آخر الإحصاءات. 

أمّا الخيار الثاني فهو الإقامة داخل خيمة فوق الأنقاض، وتلك مسألة في غاية التعقيد، إذ إن الكثير من الأُسر في هذا القطاع المحافظ لا يقبل فكرة المكوث خلف رقعة قماش بالية لا تقيه من حر الشمس ولا من برد الشتاء.

وفي الحالتين لا يبرح السكان ركام مساكنهم، لأن عمليات حصر الأضرار التي تقوم بها الطواقم الحكومية في غزة لا تزال مستمرة، لذا علّق المواطنون المكلومون فوق ركام بناياتهم يافطات تحمل بيانات للدلالة على أصحابها. 

أمران آخران يضاعفان حالة الإحباط التي يعيشها المهجرون من الأحياء المدمرة، الأول أن عملية إعادة الإعمار لا تزال في قيد التفاوض، وكما يرشح عن الاجتماعات بين الفصائل والجهات الوسيطة وأبرزها القاهرة، فإن العملية مشروطة من إسرائيل والولايات المتحدة، بأن تمر أموال الإعمار عبر السلطة الفلسطينية ولا تُسلَّم إلى "حماس"، بينما هناك حديث عن شرط آخر يتمثل في شمول قرار وقف إطلاق النار إتمام عملية تبادل الأسرى بين "حماس" وإسرائيل، وأن يكون العمر الزمني للتهدئة طويلاً نسبياً.

وليس في الأفق ما يؤكد موافقة "حماس" على هذا الأمر ومعها الفصائل الأُخرى، كالجهاد الإسلامي والأحزاب المسلحة، الأمر الذي يزيد من مساحة الضبابية حيال اكتمال ملف التهدئة ويُضائل أمل الاقتراب من بدء الإعمار.

أمّا الأمر الثاني هو أن هناك 2000 وحدة سكنية في قطاع غزة تضررت في الصراعات الثلاثة السابقة (2008-2012-2014) بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، ولم يتلقَّ أصحابها أي تعويضات مالية لإعادة بنائها أو ترميمها، ولا زالوا يعيشون بالإيجار إلى الآن، وفق تأكيد مسؤولين في وزارة الأشغال العامة والإسكان في غزة.

ثانياً: التعويضات الاقتصادية 

في ظل تداعيات جائحة كورونا واستفحال البطالة وارتفاع معدلات الفقر والعجز المتضخم في الميزانية، جاءت خسائر وتكلفة العدوان لتعمّق أزمة قطاع غزة الاقتصادية.

إن ما خلّفه العدوان الأخير على القطاع من تدمير طال المنشآت الصناعية، ومتاجر، ومطابع، ومراكز تجارية، وخطوط نقل الكهرباء، يعكس رغبة إسرائيلية في إبقاء القطاع معلقاً مثل الغريق. بمعنى آخر، إسرائيل عملت جاهدة خلال العدوان الأخير، الذي استمر 10 أيام متتالية، على استخدام العدوان العسكري والحرب الاقتصادية، عبر استهداف منشآت صناعية كبرى، مثل شركة السكسك للبنية التحتية والصرف الصحي والخزف والسيراميك وشركة أبو إسكندر للصناعات البلاستيكية، بهدف إضعاف القطاع الاقتصادي المنهَك أصلاً بفعل تداعيات الحصار وانتشار جائحة كورونا.

تشير الحصيلة الأولية للأضرار والخسائر التي تكبدها القطاع الاقتصادي إلى أن القيمة بلغت 30 مليون دولار، وبهذا تفتح حرباً أُخرى على الأُسر المحدودة الدخل بفعل تعطيل عمل الآلاف من العمال.

ووفقاً للتقديرات المحلية الأخيرة، إن مستوى البطالة في غزة تجاوز الـ 70%، وبصورة خاصة إذا انضم حرفيون وتجار إلى القائمة بعد تدمير مشاريعهم.

وحتى لا يغيب عن الأذهان، فإن الأزمة الاقتصادية في القطاع مركبة وممتدة، بدأتها إسرائيل عندما فرضت حصاراً على القطاع سنة 2006، منذ ذلك الحين حجب الاحتلال إدخال المواد الخام اللازمة للصناعات المتنوعة، فضلاً عن التحكم في حركة البضائع، والحد من فرص التصدير لكل من القطاع الصناعي والزراعي، يُضاف إلى ذلك أزمة أكثر تعقيداً تتعلق بملف الكهرباء الذي أثّر في فرص استمرار القطاعات الإنتاجية كالمصانع والورش وغيرها، وهذا كله في المحصلة قاد إلى هروب ما تبقى من رأس المال خلال الأعوام العشرة الأخيرة نتيجة الحروب المتتالية إلى الخارج.

عدا عن ذلك، فإن العشرات إن لم يكن المئات من رجال الأعمال اضطروا إلى دخول السجن بفعل التراكمات المالية المستحقة على عاتقهم، نتيجة الخسائر الاقتصادية التي تكبدوها بفعل الحصار وانعدام الدخل وفرص الاستثمار.

هذا كله ضاعف فاتورة الحرب الاقتصادية التي تشنها إسرائيل على مدار أعوام ممتدة آخرها في العشرين من أيار/مايو، والذي تمثّل في استهداف مصانع داخل مدينة غزة الصناعية (باديكو القابضة) التي تأسست سنة 1996 كأولى المدن الصناعية في فلسطين لتكون نافذة الوطن لتصدير المنتوجات الفلسطينية من قطاع غزة إلى دول الجوار، وداعماً أساسياً للاقتصاد الفلسطيني. هذه المدينة وحدها كانت توفّر أكثر من 2500 فرصة عمل في مجالات واسعة، كونها تضم مجموعة كبيرة من الشركات الصناعية والتجارية المحلية. وبكل تأكيد أصبح الآن عدد كبير من هؤلاء بلا عمل نتيجة تدمير مصانعهم.

في واحدة من محاولات تجاوُز المحنة الاقتصادية التي يمر بها القطاع قد يفاجأ البعض بأن بعض عمال قطاع الإنشاءات بدأوا عملية تفتيت ركام العدوان من أجل إعادة استخدامه، فضلاً عن استخراج أسياخ الحديد لتجاوُز معضلة حجب إسرائيل إدخال المواد الأساسية والمواد الخام اللازمة للقطاعات الإنشائية على وجه الخصوص.

في واقع الأمر، هذه محاولات محمودة لتجاوز حالة البطالة، لكنها بكل تأكيد لا تكفي ولا تفي بحاجات السكان، ولا تغني عن ضرورة وحتمية تعويض أصحاب المنشآت الصناعية الكبرى وخطوط الإنتاج، التي يتضاءل الأمل في عيون أصحابها بالحصول على فرص تعويض موازية لأصحاب المنشآت السكنية المدمرة، نتيجة وجود قائمة ممتدة من المتضررين منذ سنة 2004 لم تتلقَّ تعويضات عن الخسائر التي تكبدتها نتيجة العدوان والحروب إلى الآن.  

ثالثاً: إعمار الإنسان

لا يُخفى على أحد أن السكان في قطاع غزة ما زالوا واقعين تحت تأثير الصدمة النفسية الناتجة من قتل المئات وإصابة الآلاف والتسبب بالإعاقة، فضلاً عن تدمير المساكن والبنى التحتية. لكن المفارقة أن هذه الأزمة لا تحظى بفرصة التدوين على قائمة الأولويات المطلوبة بالنسبة إلى المسؤولين، أسوة بملفات الإعمار الأُخرى.

يشكل إهمال إعادة إعمار الإنسان، وخصوصاً الأطفال، تحدياً كبيراً في غزة نظراً إلى حجم الأزمات النفسية التي خلفها العدوان، وكأن إسرائيل أرادت صناعة جيل مشوّه مجبول بالخوف والقلق والفزع وأشكال أُخرى من الصدمات.

يؤكد الدكتور إسماعيل أبو ركاب وهو أخصائي نفسي، أن الأزمة النفسية بدأت تطفو إلى السطح بعد انتهاء العدوان لدى الكثيرين من المواطنين، وخصوصاً الأطفال.

قال أبو ركاب: "الفقد أمر صعب في حياة الأشخاص، سواء كان فقدان فرد من أفراد العائلة، أو فقدان المأوى، أو المدرسة وغيرها من الأماكن التي يتشكل ارتباط بينها وبين الأشخاص، وهذا من الطبيعي أن يترك أثاراً نفسية سيئة قد تتضاعف لدى الصغار".

وأضاف: بدأت تصلنا شكاوى من الأهالي بأن أطفالهم يسيطر عليهم شعور بالقلق من المستقبل، ويظهر ذلك على تعابير جسد الطفل كقضم الأظافر، ومص الأصبع، والتبول اللاإرادي، والعنف الموجه إلى الآخرين، وفقدان التركيز والشرود.

وحذّر في الوقت نفسه من احتمالات تنامي هذه الأزمة النفسية، وخصوصاً في بيئة مضطربة وغير مستقرة على الصعيد الأمني كبيئة قطاع غزة، ولهذا طالب بضرورة الخروج من المحاولات الفردية لاحتواء ضحايا الصدمة، ووضع الجهات الرسمية برنامجاً متكاملاً يضمن الحفاظ على الصحة النفسية لهؤلاء الأشخاص، وخصوصاً الأطفال.

ما خلص إليه الأخصائي النفسي يعيدنا إلى ضرورة التشديد على أهمية أن يعي المسؤولين بعد أربعة حروب متتالية خلال عقد ونصف من الزمن أن سياق بناء الإنسان لا يقل أهمية عن بناء الحجر!

هذا البناء يجب أن يستند إلى ركيزة أساسية حتى لا يكون قابلاً للانهيار، ألا وهي توعية المجتمع الفلسطيني بكل فئاته من أنه لم يُخلق من حجر، وأن الخوف والقلق هما فطرة إنسانية، ومن حقه التعبير عنها والتفريغ النفسي لأثر الأذى الواقع عليه نتيجة ما يعيشه وما يشاهده من قتل وخراب ودمار، واستنزافٍ لكل مقومات الحياة.   

إيمان المواطن الفلسطيني بهذه القاعدة سيساهم في إعمار العقول السليمة، فالعقل هو المعيار الأصوب لتقديم استراتيجية عمل وطني قوامها المعرفة السياسية والثقافية والعسكرية، وقادرة على مواجهة الاحتلال في مختلف المحافل، وخصوصاً أننا بحاجة إلى عقول تنشغل بالغد وتبني للمستقبل، ولا تفكر في الأمس.